بقلم-يوسف الديني
في المقال السابق ذكرت أنه يجب التمييز بين شخص الإعلامي جمال خاشقجي، رحمه الله، وحادثة وفاته، وبين تحويله إلى حالة سياسية (Case) قابلة للاستثمار، وهو الأمر نفسه الذي يجب أن يحدث أيضاً مع المتهمين الذين ما زالوا قيد التحقيق في القضية.
ومع التطور السريع للأحداث خلال أسبوع، ورغم أنني أكتب قبل وعد الرئيس التركي إردوغان بالإفصاح اليوم عن التفاصيل، والذي أعتقد أنه لن يخرج كثيراً عن خط الرواية السعودية إلا في تفاصيل لا تغير من الشجاعة السعودية في الاعتراف بالخطأ الكبير الذي لا يمكن لأي شخص يؤمن بحقوق الإنسان والمواطنة أن يتقبله، كما هو شأن القيادة السعودية التي رأت فيه افتئاتاً على السلطة وانتهاكاً للقانون وأدانته بعبارات واضحة، داعيةً إلى ضرورة تحمّل كل من يثبت أنه شارك أو تسبب فيه المسؤولية القانونية الجنائية والأخلاقية ضمن سياق قضائي من شأنه أن يأخذ مجراه.
اليوم يجب على السعوديين جميعاً والإعلاميين على وجه الخصوص وصانعي المحتوى على السوشيال ميديا تجاه قضية «معقدة وذات أبعاد متشعبة (حالة خاشقجي)» ألا يقعوا تحت تأثير العاطفة وإعلام التسريبات والابتزاز السياسي، فالعقلانية وحدها هي طوق النجاة لفهم واحد من أكبر التحديات التي تمر بها السعودية وستعبرها منذ أن تجاوزت تحديات التأسيس وجهيمان ومشاريع انقلابية قبل الربيع العربي وبعده. فالتسرع في الحكم خطأ كبير وكذلك الرضوخ للتأثير العاطفي للحدث المأساوي حتى في قراءة قناعات الراحل جمال خاشقجي وتحولاته والذي جمعتني به صداقة شخصية ولقاءات ممتدة ساد فيها الود والاختلاف الذي بلغ التضاد في كثير منها، وليس هذا موضع الحديث عنها الآن. وفي ما يخص الحدث علينا انتظار ما يصدر عن التحقيق وما يتبعه من حكم المحكمة السعودية المختصة والعادلة، من أجل العدالة وحماية حق مواطنها وأسرته وحماية المجتمع السعودي الذي يشعر بالقلق بين إيمانه وثقته بالقيادة والدولة، وبين هذا السيل الجارف من إعلام التسريبات وأسوأ أنواع الابتزاز السياسي الذي أيضاً له سياق خاص يتصل بالانتخابات في أميركا وألمانيا، إضافةً إلى ما تكشّفت عنه الفترة الماضية من سقوط كبير لوسائل إعلام أميركية وغربية، لكن الأكثر فداحة هي سقطات وكالات الأنباء ومنها «رويترز» التي تخلّت عن نقل الخبر إلى صناعته، وقامت كما يعلم الجميع بحذف عدد من أخبارها وتغريداتها، وتلك قصة أخرى.
العقلانية تقتضي أن نفرّق بين الثابت والمتحول في «حالة خاشقجي»، الثابت اليوم هو أن الرئيس الأميركي رغم التصريحات المتباينة والتعليقات المتحولة قال ما يعتقده ثابتاً في حواره مع «واشنطن بوست»، وأقتبس منه: «الملك سلمان شخصية قوية وذكية ورجل حكيم. وولي عهده شخص محبّ لوطنه وثقتي به كبيرة. السعودية حليف مهم لأميركا ولن أخسرها»، والمتحول أن التصعيد تجاه السعودية هو جزء من رسملة «حالة خاشقجي» وتحويلها إلى رأس مال سياسي مرتبط بالتوقيت السيئ الذي وقعت فيه الحادثة، حيث اقتراب موعد الانتخابات الأميركية بعد أسبوعين تقريباً، والذي سبّب حالة من الابتزاز المجاني وغير المنطقي من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين تصبغهما تنويعات تعكس طبيعة التصريحات ما بين أجنحة محافظة ويمينية ويسارية وليبرالية، وهي بالتأكيد مشغولة بمناكفة ترمب من خلال استغلال حدث كبير لأهم حلفائه في المنطقة، وهي الحال نفسها مع تصريحات المستشارة الألمانية ميركل وعدد من القيادات الحزبية في الائتلاف الحاكم، في ظل اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في أهم ولايات ألمانيا، والتي تشهد منافسة شرسة وصعوداً للحزب المسيحي الديمقراطي. وفي البلدين لا بد من قراءة تزامن إطلاق القس الأميركي والصحافية الألمانية التي تعمل في قناة «دويتشه» والتي اتُّهمت بالإرهاب مع زوجها في التوقيت نفسه.
الشره للاستثمار في «حالة خاشقجي» شواهده كثيرة، ولا يتم الحديث عنه بسبب طغيان المناخ الأخلاقي والعاطفي تجاه الحدث، في ظل معلومات وأكاذيب إعلام التسريبات الذي استبق الأحداث ورسم أبشع صورة وأكثرها سذاجة، رغم أن ذلك السيناريو المضلل في التفاصيل يثبت عدم الاستهداف في القنصلية وبطريقة مكشوفة كانت محل سخرية واستهجان، قبل أن تخرج الرواية السعودية التي لا بد أن تكتمل في الأيام القادمة والتي لم تبرر قدر أنها شرحت الموقف المعقد والتجاوزات والارتجال. هذا الكشف زاد من تصعيد الاستغلال والتسريبات، والانتقال من المطالبة بكشف الحقيقة إلى استهداف القيادة السعودية، ولاحقاً السقوط المدوّي للتصريحات السياسية، والأمثلة كثيرة منها ما أوردته «نيوزويك» وما إلى ذلك.
هذه التجليات للاستثمار السياسي الرخيص والبراغماتي قابلتها حملة من الاستهداف البذيء من صحف مثل جريدة «يني شفق» التي ذهبت بعيداً في التخرصات. بالطبع لن أتعرض للسقوط الأخلاقي والمهني لقناة «الجزيرة»، لأنه أوضح لكل المتابعين، خصوصاً السعوديين، من أن يُذكَر، وأيضاً لضيق المساحة، لكنه يجب أن يُفهم في سياق المعركة الأخيرة، لا سيما بعد أن تجاهلت السعودية التغريدات المتلبسة بالحكمة الباردة والانتهازية في أول يوم من وزير الخارجية السابق، والتي كانت بالنسبة إليّ مفتاحاً للتفتيش عن سياق توظيف «حالة خاشقجي» كرأس مال اجتماعي.
رسملة الحدث أيضاً، وهذا مؤسف جداً، طالت شخصيات سعودية غير معارضة استغلّت الارتباك المتفهَّم لتمرير أجندات ومطالبات سياسية بأسلوب ضاغط على شكل مطالبات محددة بإطلاق موقوفين دون معرفة بتفاصيل اعتقالهم أو التهم الموجهة إليهم، والبعض انقضّ على مشاريع تتصل بالأمن السيبراني والمحتوى المضاد لحملات تشويه السعودية وطالب بإلغائها، إضافةً إلى الهجوم غير الأخلاقي على القائمين عليها، رغم أنها كالإعلام محل نقد وملاحظات تقتضي التطوير، والمفارقة أن ذلك جاء في نفس اليوم لإعلان قطر وتركيا إطلاق مشاريع كبرى لمواجهة التهديدات السيبرانية، وبعد تحقيقات في الصحف الغربية و«واشنطن بوست» هاجمتها بضراوة دون أن تتنبه في غمرة الابتزاز والسخرية بوصف «الذباب الإلكتروني» إلى مشاريع مضادة لبعض المعارضين السعوديين «النحل الإلكتروني».
على السعوديين اليوم إعادة تسويق منجزهم ومستقبلهم وموقعهم الجغرافي كقبلة للمسلمين وموقعهم الجيوسياسي في منطقة تغلي من حولهم، عبروا فيها تحدي الربيع العربي، وواجهوا الإرهاب وساهموا في استقرار دول عربية وإسلامية وخروجها من مآزق وجودية. يجب تسويق كل هذا وغيره خارج أقواس النفط الذي يداعبه الآخرون... هناك منجز ولُحمة وعلاقة لا يفهمها الكثيرون بين القيادة والشعب ظلت في أقوى صورها، حتى حين تكالب علينا إعلام مأجور بهجوم لم تنلْه أنظمة تحرق أبناءها بالبراميل، وأخرى تزج بمئات الألوف منهم في السجون.
علاقة القيادة السعودية منذ عهد المؤسس بأبنائها من معارضين ظلوا بعيداً ثم عادوا طوعاً أو من وقعوا في الإرهاب وأُعطوا الفرصة مجدداً، لا تدّعي الكمال ولا تكابر عند الخطأ، لكنها من الألغاز التي لا يمكن شرحها للعالم إلا من هنا. أدرك أن محاولة الحديث بعقلانية وصراحة في مناخ العاطفة والارتباك صعب ويساء فهمه، لكن عزائي أني لا أعرف من كل مَن أشير إليهم هنا سوى جمال الذي بكيته مرتين؛ مرة حين فقدناه في المساهمة في ما وصفه هو بالمستقبل الجديد، والأخرى حين رحل بطريقة لا يستحقها. كل العزاء لأسرته الكريمة.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع