بقلم - يوسف الديني
جزء من أزمة قراءة معضلة «الإرهاب» هو النظر إليه كمتغير سياسي، وليس حالة قارّة متنقلة بحسب الظروف والمناخات التي تساعد على ولادتها ونشأتها وصعودها، فضلاً عن تأثرها بالمناخ العام في بلدان غير مجاورة للمناطق الملتهبة؛ ذلك أن المقاتلين المنخرطين في العمل المسلح (الجهاديين) منذ تحولهم إلى كتلة مفارقة ومتمايزة عن أي ظاهرة مشابهة منذ التجنيد الأولي في أفغانستان، لا ينظرون إلى الحدود إلا كعوائق أمنية للانتقال بسلاسة في تحقيق الهدف العام، وهو التجنيد والفعالية القتالية أو الانتظار حتى تحين الفرصة مع الجهوزية الكاملة آيديولوجياً وعسكرياً مما يعرف في أدبيات التنظيمات الإرهابية بـ«مرحلة الإعداد».
من هنا أي قراءات تفاؤلية عن أفول أو نهاية الإرهاب أو حتى كمونه، لا تنظر إلى الصورة الكاملة للظاهرة التي تتجاوز الأطر السياسية والأمنية إلى أسلوب حياة مثالي بدوافع كرومونولوجية، لا يمكن فهمها إلا بقراءة عميقة للجريمة المنظمة بأبعاد فكرية تقدم عليها مجموعات من الأشخاص بكامل إرادتها، بل وتتعدى كل الضغوط والتحديات للوصول إلى تلك المجتمعات في مناطق التوتر والانخراط في سلوك جمعي لممارسة «العنف المقدس» من وجهة نظرها.
اليوم تواجه المجموعات الإرهابية «داعش» في مناطق التوتر بالعراق وسوريا و«القاعدة في جزيرة العرب» باليمن، و«القاعدة» التقليدية في أفغانستان، إشكالية «تسليط الضوء» الذي يتخذ شكل الحرب العالمية على الإرهاب، لذلك قررت مجموعات كبيرة منها الانتقال إلى مناطق أقل حضوراً، ليس بسبب عدم وجود الدافع العنفي كليبيا موضوع الحديث أو شمال أفريقيا والصومال، بل لأن الحقيقة المؤلمة والمرّة أن الإرهاب يتم التعامل معه بازدواجية شديدة، فهو لا يعتبر معضلة كونية إلا حين يتماس مع ملف سياسي أو مصالح اقتصادية للدول الكبرى.
تنظيم داعش اليوم - بحسب تقارير الأمم المتحدة - يعاني من خسارة ما يزيد على 90 في المائة من مداخيله، واضطر إلى تبني عمليات إرهابية لا علاقة له بها، كما توقفت آلته الإعلامية الضخمة عن إصدار عدد من المجلات، وانخفضت الإصدارات المرئية والمشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أدنى حدودها، ليس بسبب نجاح الخطابات المضادة، بقدر أنها مرحلة إحباط كبيرة رغم العمليات الصغيرة التي يقدم عليها «الداعشيون» بالوكالة في مناطق أخرى، كالهجمات على الأقباط في مصر، أو المناوشات في شمال أفريقيا، كما هو الحال، مع تهديد سائر بلدان العالم من قبل الذئاب المنفردة.
ناقوس الخطر اليوم يدق في ليبيا، حيث هي البلد المشرع لتدفق مقاتلي تنظيم داعش بعد انهيار الخلافة المزعومة، وصعود موجة الانقسامات بين التنظيمات المسلحة والتجاذبات في الولاءات بين «القاعدة» و«داعش» والفصائل الصغيرة داخل المشهد السوري الذي يعاني أيضاً من عودة النظام للممارسات الوحشية، وهو سيعطي دافعاً جديداً للتجنيد وخلق مناخات التصعيد عبر استغلال الوضع الإنساني المتردي للشعب السوري.
تترشح ليبيا لأسباب كثيرة لأن تكون بؤرة الهجرة الكبرى للكوادر الإرهابية لعدة أسباب تتصل بطبيعة موقعها وتاريخ مقاتليها في «المسيرة الجهادية» منذ أفغانستان والتجانس بين مكونات الشعب الليبي على مستوى حالة التدين وغياب الطائفية، ومن ثم إمكانية استغلال النزعات المناطقية، إضافة إلى وجود ثلاث ولايات معلنة للتنظيم في الأراضي الليبية؛ برقة وطرابلس وفزان والأراضي المفتوحة في الصحراء الليبية، وحتى بعد خسارة التنظيم من استرجاع مدينة سرت والسيطرة على الموارد التي كانت بيد التنظيم عاد إلى أسلوبه القديم المحبب، وهو حرب العصابات واتخاذ ليبيا موقعاً ملائماً للتجنيد وشن هجمات على أوروبا واستقبال المقاتلين القادمين منها.
وبحسب ريتشارد بورو، الذي كتب دراسة مهمة عن المقاتلين في ليبيا، فإن تدفق المقاتلين الأجانب إلى ليبيا هو إحدى أكبر الهجرات في «التاريخ الجهادي الحديث» بعد أن كانت البداية بهدف إسقاط نظام القذافي، وتداخل تعاون التنظيمات الإرهابية مع بعض الدول وتيارات الإسلام السياسي التي كانت تستفيد من التأليب على النظام آنذاك، ومن هنا تم الاندماج بين تيارات متباينة في أهدافها السياسية، لكنها متفقة على تدعيم الحضور المسلح للمقاتلين الأجانب في الداخل الليبي كـ«أنصار الشريعة» وتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» و«أنصار الشريعة» في تونس وبعض العائدين من تجربة تنظيم داعش، لتكون المحصلة قرابة 5 آلاف مقاتل يمثلون أكثر من 40 دولة!
هذا التدفق من المقاتلين يدق ناقوس الخطر عن مستقبل الإرهاب في المنطقة، لا سيما مع الضعف الذي أصاب استراتيجية القوى الإقليمية والمجتمع الدولي في مناطق التوتر اليوم في سوريا والعراق، وانتقال الحالة السورية من هدف الحرب على الإرهاب إلى أهداف سياسية أخرى وإرادات دول المنطقة للنفوذ السياسي الخارجي عبر سوريا، وإطلاق اليد لإيران بدعم روسي استغلالاً لشرعية الحرب على الإرهاب من أجل تثبيت النظام وخلق المزيد من الفوضى.
الإشكالية في ليبيا اليوم تستنهض أدواراً جديدة للمجتمع الدولي، وتحديداً الاتحاد الأوروبي الذي يعد أكبر المتضررين من إعادة موضعة مركزية «العنف المسلح» انطلاقاً من ليبيا، رغم الإخفاقات الكبيرة لتجربة فرنسا مع شمال أفريقيا.
الأكيد أنه أمر محبط أن يتأسف الليبيون اليوم على النظام السابق بسبب ما آلت إليه الأوضاع اليوم من انقسام كبير، ليس على المستقبل السياسي لليبيا أو مشاريع إعادة تنميتها وإعمارها؛ بل على مستوى التشدد والعنف وغياب الأمن في بلد نفطي لا يعاني من تضخم سكاني أو انقسامات إثنية أو طائفية.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه