بقلم - فرح جان
بدأ الرئيس ترمب السنة الجديدة بتغريدة اتهم فيها باكستان «بالكذب والخداع»، تلاها بعد ذلك بتدابير عقابية تمثلت بقطع 255 مليون دولار من التمويل العسكري الأجنبي. وفي المقابل رفضت إسلام آباد بشدة الاتهامات الموجهة إليها، وأعلنت انتهاء التحالف بين باكستان والولايات المتحدة. لقد شهدت العلاقات الأميركية - الباكستانية تاريخياً فترات من الصعود والهبوط، ولا تشكل الأزمة الراهنة بينهما أي استثناء، حيث تبدو السنوات القليلة القادمة مقبلة على مزيد من الاضطراب. لذلك سيعتمد أي تغير في العلاقات على مدى تلاقي المصالح بين الولايات المتحدة وباكستان أو تباعدها. ومع ذلك، فإن حاجة الولايات المتحدة إلى باكستان في المستقبل القريب تفوق حاجة باكستان إلى الولايات المتحدة، على الأقل في ظل وجود القوات الأميركية في أفغانستان. إن هذا المقال ليس محاولة أخرى لتناول العلاقات الهشة بين باكستان والولايات المتحدة. بل سينصب التركيز هنا على الحليف الاستراتيجي التاريخي لباكستان، أي المملكة العربية السعودية، وعلى صمت المملكة المطبق حيال الوضع الحالي. إن ركود السياسة الخارجية السعودية تجاه جنوب آسيا (خاصة باكستان) يثير الدهشة، خاصة في لحظة تاريخية تشهد تحولاً في القوة العالمية باتجاه الشرق.
في المرحلة الحالية هنالك تغيير في هياكل القوة في النظام الدولي يتعذر من خلاله التنبؤ بالتحالفات بين الدول، وهي مرحلة تعتبر باكستان فيها بوضع أفضل نظراً لموقعها الجيواستراتيجي. فقد استثمرت الصين بشكل مكثف في المشروع الاقتصادي المسمى «الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني (CPEC)» وفي الوقت ذاته تستمر الصين في تعزيز وتوسعة مصالحها الاقتصادية بهدوء في جميع أرجاء العالم وتواصل شراء ديون الولايات المتحدة.
روسيا في المقابل مهتمة بالانضمام إلى هذا الممر الاقتصادي وتطمح إلى استعادة موقعها وأمجادها السابقة كقوة عظمى. لذلك ستقوم بملء الفراغ التي خلفته الولايات المتحدة بشكل طوعي، ما يترك الأخيرة تحت رحمة دونالد ترمب. كما تقول الأسطورة بأنه «بينما يلعب نيرون على الكمان كانت روما تحترق». في اللحظة الحالية يلعب ترمب على تويتر بينما تفقد الولايات المتحدة نفوذها العالمي. فالإدارة الحالية تتعجل بإصدار تصريحات (أو تغريدات) دون أن تتبعها أية سياسات أو إجراءات على أرض الواقع، سواء فيما يتعلق بكوريا الشمالية أو أفغانستان.
وفي أعقاب عاصفة التغريدات التي أطلقها الرئيس ترمب مع بداية السنة الجديدة، سارعت الصين إلى الرد، ففي اليوم التالي في برلين أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قنغ شوانغ دعم الصين لباكستان، مشيراً إلى أن باكستان بذلت «جهوداً جبارة في مكافحة الإرهاب... وينبغي على المجتمع الدولي أن يعترف بذلك». أيضا وعلى الرغم من أنهم ليسوا تاريخياً من أهم حلفاء باكستان أو شركائها الاستراتيجيين، إلا أن الروس قاموا بالمثل بطمأنة باكستان، حيث أكد وزير الخارجية سيرغي لافروف مجدداً دعم بلاده لإسلام آباد. ومع هذه التطورات، فإن حلفاء باكستان الرئيسيين في الشرق الأوسط، وخاصة السعودية، التزموا الصمت. فلماذا ظلت زعيمة العالم الإسلامي صامتة حيال التحول الحالي في التحالفات في جنوب آسيا؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة للحلف الباكستاني - السعودي؟
تؤكد السعودية دائماً على العلاقات الاقتصادية والأمنية الثنائية مع باكستان. وتعود هذه العلاقات إلى الستينات، عندما وقعت الدولتان اتفاقية عسكرية كانت بداية لتحالف فريد من نوعه بين اثنتين من كبرى الدول الإسلامية، وقامت باكستان وقتها بإرسال جنودها إلى المملكة لغرض حمايتها. وبالمثل، دعمت السعودية باكستان أثناء النزاع في منطقة كشمير، كما كانت المملكة أحد أبرز مصادر المساعدات الاقتصادية التي تتلقاها باكستان. ويعمل حوالي مليوني مواطن باكستاني في السعودية، حيث يرسلون ما يقارب 7 مليارات دولار من التحويلات إلى ذويهم. وقد اعتمد طرفا الحلف على بعضهما بعضاً في الجبهة الدبلوماسية أيضاً، فعندما توترت العلاقة بين الرياض وواشنطن في منتصف الثمانينات، لعبت باكستان دوراً حاسماً في الوساطة بين الرياض وبكين عام 1985. وقد أسفر ذلك عن بيع سري لصواريخ صينية متوسطة المدى من طراز سي-إس-إس2 إلى السعودية. والجدير بالذكر أن هذه الصواريخ قادرة أيضاً على حمل رؤوس حربية نووية. وقد تمت الصفقة حينها دون علم وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، ما دفع الرئيس ريغان إلى اتهام السعوديين بالازدواجية بسببها.
إلا أن محور التحالف السعودي-الباكستاني كان مرتكزاً على قضايا الأمن، وإن اتصفت سياسة الرياض في الآونة الأخيرة بالغموض فيما يتعلق بباكستان، وبجنوب آسيا عموماً. المهم هنا أن إيران بدأت بالتكسب من ركود السياسة السعودية تجاه هذه المنطقة. لذلك فإنه يتطلب من القيادة في الرياض أن تتدارك غيابها في تلك المنطقة. فالسياسة الخارجية، كما يقول هنري كيسنجر، هي فن تحديد الأولويات، وعلى السعودية أن تعيد تشكيل أولوياتها إن كانت راغبة في تزعم العالم الإسلامي.
على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية استندت الاستراتيجية السعودية على حليفين إقليميين شديدي الأهمية: مصر وباكستان. كما أشار أحد الباحثين السعوديين إلى أن السياسة الخارجية السعودية الإقليمية تعتمد غرباً على استقرار مصر وعلى وجود باكستان قوية في الشرق. من هنا فإنه «على المملكة المحافظة على علاقات جيدة ومميزة مع هذين البلدين، اللذين يمثلان جناحيها، بما يمكنها من الطيران بأمان في مساعيها الخارجية».
إذن إلى أين وصل التحالف السعودي الباكستاني اليوم؟ مثل تصويت البرلمان الباكستاني حول اليمن انتكاسة لهذا التحالف، ولكن كما قال لي أحد المسؤولين الباكستانيين: «لا ينبغي أن تدفع السعودية باكستان نحو خلق عداوة مع إيران، ففي نهاية الأمر لدينا حدود مشتركة معها، ويجب ألا ننسى أن 15% من سكاننا شيعة». من جهتها لن تتردد إيران أبداً في تحريض الباكستانيين وإثارة النعرات عند ذوي الأصول الشيعية. كان هذا واضحاً في عام 1987، عندما تباهى السفير الإيراني في إسلام آباد علناً أمام المسؤولين الباكستانيين بقدرة إيران على حشد مليون شيعي في شوارع باكستان في غضون ساعات. في مثل هذه الظروف سيتعين على صناع السياسة في السعودية البحث عن علاقات متوازنة مع باكستان.
لقد انصبّ التركيز الرئيسي للاستراتيجية السعودية منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز في عام 2015 على احتواء إيران ونفوذها في العالم الإسلامي. ربما ينبغي على السعودية أن تستضيء باستراتيجية الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، والتي اعتمدت بشكل رئيسي على التحالفات. مع ذلك فإن إقامة التحالفات ليست مسألة إرضاء تام لجميع الأطراف، بل هي مسألة البحث عن نقطة التوازن. وكما كان يرى كيسنجر، الاختبار ليس في الوصول إلى الرضا التام بل في توازن السخط.
وعندما أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن إصلاحات لاقت ترحيباً ليس فقط من قبل الشباب السعودي، بل وفي جميع أنحاء العالم أيضاً. ومن الطبيعي أن يعيد ولي العهد ضبط أولويات المملكة وتكييفها لتتوافق مع التغيرات الزمنية. كما يتوجب على السعودية عدم تسليم حلفائها الإقليميين لإيران، وعدم التنازل عن مجال نفوذها الإقليمي في المنطقة. لذلك سيكون من الحكمة أن تبقي السعودية على التحالفات التقليدية بل وتعززها.
إنه في ظل غموض سياسة المملكة حالياً تجاه باكستان فإنها تخاطر بالأهمية السياسية للعلاقة بينهما. والواقع أن الباحثين والعارفين بالمنطقة يدركون أن نفوذ المملكة على باكستان يفوق سطوة الولايات المتحدة. لذلك إذا كان السؤال عن موقع الحلف الباكستاني-السعودي اليوم، فإن الجواب يعتمد على السعودية وخطواتها المقبلة. تاريخياً، كان كل زعيم سعودي يتمتع برؤية وسياسة تجاه جنوب آسيا، مواصلين بذلك سياسات أسلافهم تجاه المنطقة. لذلك فإنه من الضروري لكي تكون المملكة حصناً للإسلام –وللأمة الإسلامية– فإنها بحاجة إلى رؤية واضحة واستراتيجية متوازنة. إن المنطقة الآن بانتظار سياسات واستراتيجيات طويلة الأمد من السعودية الجديدة في ظل قيادة الملك سلمان.
* أستاذة محاضرة في العلوم السياسية بجامعة «روتغرس الأميركية - نيوبرونزويك»
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية