بقلم : أحمد الحناكي
كان يوماً مختلفاً مؤلماً حزيناً عندما استمعت إلى من يحذر من ترك المرأة وحدها، معتبرها بلا عقل أو دين، مثلها مثل السفيه والمعتوه.
تذكرت أولاً جدتي لوالدتي، التي كانت مثالاً للعقل والرزانة والحكمة والتدبير، تيقظنا عند الفجر أنا وأخي للصلاة، ومن تلك الساعة حتى الثامنة مساء وهي «خلية نحل» من طبخ وتنظيف، ومتابعة، وخلافه، وخاصة أن والدتي كانت كفيفة ولم تكن مضطرة لصنع شيء آنذاك، وسبق أن ذكرت في مقالة سابقة، أننا كنا نذهب معاً، أنا وجدتي وأخي، لانتظار الشاحنات المحملة بالمياه، ونتزاحم مع سكان حارتنا ونتزود بالمياه للبيت.
جدتي هي من كانت تتفاوض مع صاحب المنزل بخصوص الإيجار، وهو رجل فاضل يدعى عبدالله البوقري، إذ كان يأتي لتسلم الأجرة كل سنة.
عندما رحلت جدتي في يوم حزين لا أنساه في حياتي تولت الدفة والدتي الكفيفة، فكانت خير خلف لخير سلف، فلا أحد يصدق أن من يصنع البيض والبطاطس المقلي والبزاليا، (أصدقاء أخي لا يزالون يتذكرونها على رغم مرور حوالى 40 عاماً)، والكبسة والمرقوق هي أمي، بل إن إتقانها كان لا يتغير بحكم اعتمادها على اللمس، وفضلاً عن ذلك نكهة «الشاي» الذي تصنعه جعلتني لا أحب «شاياً» عمل بيد غيرها. كافحت وناضلت بصبر وجلد، وفي فترة معينة باعت غرفة نومها التي لا تملك سواها وأساور اليد (المجاول) وصنعت الآيسكريم وباعته من المنزل، ولم تكن تقبل مني أو من أخي تغيباً عن الدراسة حتى ليوم واحد، وعندما رسبت في امتحان الثانوية العامة في الدور الأول، وكنت خارج الرياض، صدمت بعنف ليس فقط للرسوب بحد ذاته، بل بتصوري لمشاعر أمي في تلك اللحظات، وعندما وصلت إليها اكتشفت أنها تفكر بمشاعري أنا، فقد كانت قلقة جداً خوفاً عليّ من الصدمة!
كيف يجرؤ أي شخص مهما كانت مكانته أن يصف أمهاتنا بالسفه والعته؟
نموذج جدتي وأمي يتكرر الآن في زوجتي، وأخواتي، وقريباتي، وزوجات الأصدقاء، وغيرهن، ولو تأملنا قليلاً لاكتشفنا الآن النماذج المضيئة في بلادنا ممن يتميزن إما بالتفوق الأدبي، أو العلمي، أو العملي، أو الأكاديمي، أسماء كثيرة وكبيرة، وفي كل القطاعات، ما عدا العسكرية، بل إن تخصصات الطب والتعليم تنحاز أكثر للنساء.
لست في صدد مقارنة بين النساء والرجال، بل إنني أوضح أنه لا مجال للمقارنة بين من يمتلكون القدرات نفسها، فهناك مميز ومميزة، وناجح، وناجحة، ومثابر ومكافح، وكذلك في النساء، المحصلة النهائية أن الأسطوانات المهترئة التي دأبت على الخروج بين الحين والآخر للتقليل من المرأة واحتقارها يجب أن توقف من الدولة، مثلها مثل أي صوت تطغى عليه العنصرية، أو الإقليمية، أو المذهبية، أو التعصب القبلي، أو الديني، أو الطبقي.
يجب أن تصل رسالة إلى الجميع مهما كانت مكانتهم؛ أن مثل هذه البيانات والتصريحات والتشنيعات ستقابل بعقاب، وليس هناك أحد فوق القانون، والرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يشيد بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد حتى بعد مماتها، وكذلك بأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، وكان الفاروق عمر بن الخطاب يستشير النساء في بعض المسائل، وهو الذي قرر ألا تزيد مدة غياب المحاربين عن زوجاتهم عن أربعة أشهر بعد استشارته لابنته أم المؤمنين حفصة.
إذا كان هؤلاء لم ينظروا إلى المرأة إلا باعتزاز وتقدير؛ فلماذا نجامل من يتهجم الآن، وبكلام لا يقبله إنسان عاقل؟
نقلاً عن الحياه اللندنية