بقلم: غسان شربل
في منطقة الخليج، يسأل الصحافي الزائر نفسَه هل يحتاج النظام الإيراني إلى تسخين خط التماس مع الغرب وجيرانه بين وقت وآخر لإعادة شد عصب النظام، وإيقاظ تماسك حديدي بحجة تعرض البلد لأخطار؟ وهل صعب على إيران أن تسلك طريق الدولة الطبيعية التي تعيش وفق الأعراف الدولية المعروفة والمتبعة؟ هل تخشى أن يكون الاتجاه إلى الدولة الطبيعية اتجاهاً حتمياً نحو سقوط النظام أو إحداث تغييرات جوهرية فيه؟
منذ انتصار «الثورة» في إيران، تعيش المنطقة أزمة تعايش. أزمة تعايش بين إيران وجيرانها. تحوّل سوء التفاهم قاعدة ثابتة ومعه المخاوف والشكوك. وفي هذا المناخ لا خيار غير تحديث ترسانتك لتكون ضمانتك إذا تردد العالم في كبح العواصف قبل استفحالها. تعزيز الترسانات والبحث عن تحالفات.
كانت الأسئلة تتزاحم في ذهني وأنا في الطريق إلى مكتب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. كيف تفكر السعودية في الأزمة الحالية بعد استهداف الناقلتين وتكرار الاعتداءات الحوثية على أراضيها؟ وماذا عن الحرب التي يتخوف كثيرون من اندلاعها؟ وكيف تقوّم الرياض علاقاتها الحالية مع واشنطن؟ وماذا عن النزاع الدائر في اليمن؟ وماذا تقول السعودية عن الوضع في السودان؟ هذا عدا الأسئلة المتعلقة بالتحول الكبير الذي تشهده المملكة في ضوء «رؤية 2030».
عن الحرب قال الأمير محمد بن سلمان، في حديث إلى «الشرق الأوسط» نشرته أمس إنَّ «المملكة لا تريد حرباً في المنطقة، ولكننا لن نتردد في التعامل مع أي تهديد لشعبنا وسيادتنا ومصالحنا الحيوية». ولفت إلى أن تحققَ أهداف الرؤية «يتطلب بيئة مستقرة ومحفزة داخل المملكة وفي المنطقة». لفت ولي العهد السعودي أيضاً إلى أن سياسة زعزعة الاستقرار وإثارة الطائفية ونشر التطرف شكلت في السنوات الماضية جزءاً مما سمي «تصدير الثورة». وهو نهج لم يتغير، مشيراً إلى أن إيران استخدمت العوائد الاقتصادية للاتفاق النووي في دعم أعمالها العدائية في المنطقة، بدلاً من تسخيرها في تحسين معيشة المواطن الإيراني. ويختصر المشكلة مع إيران بأزمة طبيعة الدولة القائمة فيها، قائلاً إنَّ «الخيار واضح أمام إيران. هل تريد أن تكون دولة طبيعية لها دور بنّاء في المجتمع الدولي، أم تريد البقاء دولة مارقة؟ نحن نأمل في أن يختار النظام الإيراني أن يكون دولة طبيعية، وأن يتوقف عن نهجه العدائي».
الكلمة المفتاح هي «الدولة الطبيعية». والمقصود الدولة التي تعيش ضمن حدودها، وتدخل البلدان الأخرى من بواباتها الشرعية، وتتقيّد في علاقاتها بالدول الأخرى القريبة والبعيدة بالقواعد والمواثيق الدولية والأعراف. وواضح أن المقصود أن «الدولة الطبيعية» لا تبيح لنفسها التسلل إلى خرائط الآخرين ونسيجهم الوطني، وإنشاء جزر محصنة أو جيوش صغيرة جوّالة، هدفها قلب موازين القوى ومصادرة قرار عواصم وإلحاقها ببرنامج الانقلاب الإيراني الكبير في الإقليم.
والحقيقة أن أزمة العلاقات مع إيران سابقة للأزمة التي استيقظت إثر خروج أميركا في عهد دونالد ترمب من الاتفاق النووي، وقيامها بفرض عقوبات غير مسبوقة على طهران. وحتى في هذه النقطة بالذات يمكن القول إن المشكلة هي في السلوك الإيراني على مستوى الإقليم وفي الترسانة الباليستية؟ أي في النقطتين اللتين حرصت إيران على إبعادهما عن نصوص الاتفاق، الذي وافقت إدارة الرئيس باراك أوباما على توقيعه.
لا يحق لأهل المنطقة أن يفرضوا على الإيرانيين طبيعة النظام الذي يفضلون العيش في ظله. إنه حقهم في الاختيار. لكن في المقابل، يحق لأهل المنطقة أن يرفضوا محاولات طهران التدخل في دولهم وأسلوب حياتهم. هذا التسليم بحقوق الشعوب والدول شرط من شروط التعايش والاستقرار. في غيابه يبقى التوتر حاضراً والأزمات الكبرى واردة.
يحتاج أهل الشرق الأوسط إلى قطرة استقرار في حياتهم. أضاعوا الكثير من الوقت. واستُنزفوا في حروب طويلة. وفي مخاوف لا تنتهي. يحتاجون إلى اللحاق بركب التطور العالمي. إلى بناء اقتصاد حديث. وتوفير فرص عمل. وتطوير التعليم. يحتاجون إلى الاستثمار والاستقرار والازدهار.
وفي الحديث عن اليمن يذكِّر ولي العهد السعودي بالثوابت التي يفترض أن يستند إليها الحل السياسي هناك، معيداً إلى الأذهان أن إيران كانت وراء إفشال هذا الحل عبر الميليشيات المؤيدة لها. ويؤكد التزام السعودية مع دول التحالف دعم الشرعية اليمنية و«حماية أمننا القومي، فلا يمكن أن نقبل في المملكة بوجود ميليشيات خارج مؤسسات الدولة على حدودنا».
ويتقدم خيار الاستقرار لدى حديث الأمير محمد بن سلمان عن الوضع في السودان: «يهمنا كثيراً أمن السودان واستقراره، ليس للأهمية الاستراتيجية لموقعه وخطورة انهيار مؤسسات الدولة فيه فحسب، ولكن نظراً أيضاً إلى روابط الأخوة الوثيقة بين الشعبين».
ويؤكد الأمير محمد بن سلمان أن المملكة «تنظر بأهمية كبيرة إلى العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وهي علاقات ممتدة لأكثر من سبعين عاماً أسهمت خلالها هذه الشراكة الاستراتيجية عبر التاريخ، في دحر العديد من التحديات التي استهدفت أمن واستقرار وسيادة دولنا». ومن يرجع إلى مسار هذه العلاقات يكتشف أن الرياض وواشنطن تغلبتا على تباين وجهات النظر حول عدد من المواضيع بينهما، ذلك أن التطابق الكامل ليس شرطاً لاستمرار العلاقات بين الحلفاء. وقد اجتازت هذه العلاقات امتحانات قاسية رافقها ارتفاع أصوات مشككة، ثم تغلبت الحسابات الاستراتيجية الكبرى على الأزمات العابرة.
واضح أن منطقة الخليج تجتاز اختباراً كبيراً، اختباراً بين الإصرار على لغة تصدير النار والإصرار على توفير شروط الاستقرار بحثاً عن الازدهار. أزمة الخليج ليست جديدة. إنها أزمة التعايش بين قاموسين: قاموس الاستقرار وقاموس النار.