بقلم - عزمي عاشور
كان الاعتقاد السائد أن عصر الزعماء الأقوياء انتهى مع القرن الذي انتهى. وأن ظهور هؤلاء كان مرتبطاً بمنعطفات استثنائية من قماشة حروب الاستقلال أو الحروب العالمية. لكن متابعة الأحداث تفيد أن تحديات القرن الحالي لا تقل عن تحديات سلفه وإن اختلفت المعطيات والظروف.
تبدو البلاد أحياناً وكأنها تنتظر رجلاً. رجل قادر على فتح نوافذ الأمل. واستجماع الإرادات. واختصار المسافات. والمبادرة حيث يتردّد الآخرون. رجل يكسر الجمودَ والترهلَ والمراوحة ويجرؤ على التفكير من خارج القوالب المتوارثة. ولا مبالغة في القول أن هؤلاء الرجال يظهرون من فرط الحاجة إليهم. ولأن المنعطفات الصعبة تحتاج إلى أصحاب رؤية وأصحاب قرار وأصحاب إرادة.
وأحياناً يؤدي ظهور رجل استثنائي إلى تجنيب بلاد الهاويةَ التي كانت مندفعة إليها. يجدّد أحلام شبابها ويشركهم في صنع مصيرها. يجنبها الخضات الدامية والانهيارات القاتلة.
لم يعد الغرب قادراً على إنجاب {رجل قوي} تتجاوز هيبته صلاحياته. الديمقراطية تخشى الأقوياء الذين يحملون توقاً عميقاً إلى سلطة بلا حدود. لهذا برعت في هندسة ترتيبات لكبح جموحهم. والدساتير لا ترحم. لحظة احتفاله بفوزه يعرف المنتصر موعد مغادرته. لن يتأخر البرلمان في العرقلة. ولن يتردد الرأي العام في الانقضاض. وستتولى مكائد المعارضين والصحافيين استنزاف رصيد الرئيس. وسيراق دمه يومياً في أزقة السوشيال ميديا. واضح أن الديمقراطيات تراهن على دور المؤسسات واستمراريتها لا على البطل المطلق اليدين.
لكن الغرب، وعلى رغم تقدمه وقوته وإشعاعه، ليس العالم بأسره. وأخطأ الذين اعتقدوا أن القرية الكونية بأسرها ستسارع إلى اعتناق النموذج الذي أشهر انتصاره غداة اندحار الاتحاد السوفياتي وانتحاره. فشل الرهان ولم يعمر نظام القطب الواحد طويلاً. وها نحن نشهد ارتباكَ الحلبة الدولية بصعود ملاكمين يصعب اتهامهم بالديمقراطية على الأقل في صيغتها الغربية.
أوضاع الغرب معروفة. أميركا والعالم يعيشان على وقع تغريدات الرئيس. والمستشارة الألمانية احتفظت بمكتبها لكن نتائج الانتخابات صدعت صورتها. شهر العسل بين سيد الإليزيه والفرنسيين آخذ في الانقضاء. وسيدة 10 داونينغ ستريت تكابد في قيادة رحلة الطلاق مع الاتحاد الأوروبي.
المشهد مختلف تماماً في الحي الصيني من القرية الكونية. نشهد هناك ولادة {ماو تسي تونغ القرن الـ21}. وثمة من يعتقد أن بلاد ماو تستعد للعيش في ظل إمبراطور جديد. ومن الخطأ الاعتقاد أن الحدث بعيد ولا يعنينا. إننا نتحدث هنا عن بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة وعن الاقتصاد الثاني في العالم.
قبل أيام فاجأت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني العالم. {اقترحت إلغاء تعبير ألا يقضي الرئيس الصيني ونائبه أكثر من ولايتين متعاقبتين من دستور البلاد} كل منها من خمس سنوات. وقالت أيضاً إن الحزب اقترح إدراج {فكر شي جينبينغ في شأن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد} في دستور البلاد. وهو تعامل لم يحظَ بمثله أي من ورثة ماو. وهذا يعني ببساطة أن رحلة الصين مع شي باتت مفتوحة، وأن موعد انتهاء ولايته الثانية في 2023 صار مجرد محطة في رئاسة مدى الحياة حسده عليها الرئيس دونالد ترمب مشيداً بصاحبها.
واضح أن شي نجح في السنوات الخمس الماضية في تمهيد الطريق لإقامة مفتوحة على عرش ماو. روّض جنرالات الجيش وبارونات الحزب، وقاد حملة صارمة على الفساد أطاحت رؤوساً كبيرة وعنيدة.
من يتابع الشأن الصيني يدرك حجم هذا الانقلاب. في 1982 فرض الحزب أن يغادر الرئيس بعد انقضاء ولايتين. كان الغرض تفادي ظهور رجل أقوى من الحزب والمؤسسات ويختصر البلاد في شخصه. رجل يمتلك حرية التصرف بالبلاد والعباد على غرار ما فعل ماو، خصوصاً إبان {الثورة الثقافية} وما أدت إليه من خسائر بشرية واقتصادية.
كان الاعتقاد السائد في الغرب أن روسيا الخارجة من الركام السوفياتي ستقتفي أثر الدول الغربية وستستوحي الديمقراطية القائمة هناك على الرغم من إقامتها الطويلة في ظل حكم الحزب الواحد. لم يحدث ذلك. منذ بداية القرن الحالي تقيم روسيا في عهدة رجل نجح في هندسة نسخة روسية من الديمقراطية. برلمان مضمون وصحافة ممسوكة وتحجيم متواصل للمجتمع المدني وغياب لقدرة رأي عام مستقل على الممانعة والمحاسبة.
ولد زعيم قوي اسمه فلاديمير بوتين. أعاد تشكيل المشهد الداخلي وكذلك صورة بلاده في الخارج وموقعها في نادي الكبار. أمسك الرجل بكل الخيوط وصار ذهابه إلى الانتخابات أشبه بنزهة. استعاد القرم وزعزع استقرار أوكرانيا وتدخل عسكرياً في سوريا وفرض دوره على المشهدين الإقليمي والدولي.
الصين أيضاً تنتظرها تحديات غير مسبوقة. صعودها يثير المخاوف لدى الدول القريبة والبعيدة. مبادرة {الحزام والطريق} تعبر بوضوح عن التطلع إلى دور استثنائي على الصعيد العالمي اقتصادياً وبالتالي سياسياً. سلوكها في بحر الصين الجنوبي يعكس إصرارها على التمتع بموقع الدولة القوية. تطلعها إلى احتلال موقع القوة الاقتصادية الأولى في العقود المقبلة يرشحها للدخول في اختبارات كبرى مع الولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الداخلي التحديات ليست بسيطة. المحافظة على معدل نمو مرتفع. وحفظ الاستقرار في مجتمع شهد تحسن أحوال مئات الملايين من أفراده ما قد يدفعهم إلى المطالبة بشكل من المشاركة في رسم مستقبل البلاد لا توفره الأطر الحزبية الحالية. عملية التحديث المفتوحة والالتحاق بالثورات التكنولوجية المتعاقبة. التعامل مع الثورة الرقمية وتحول كل مواطن صحافياً وناشراً وشاهداً.
في ظل هذه المعطيات أعاد الحزب الشيوعي الصيني فتح الباب لظاهرة الزعيم القوي. ربما لشعوره أن وجود زعيم دائم يمثل حاجة داخلية وخارجية في المرحلة المقبلة. حاجة للمحافظة على الازدهار والاستقرار معاً. وحاجة لتقدم الصين إلى موقع اللاعب الكبير على الساحة الدولية. ربما لهذا السبب هناك من يعتقد أن الخطاب الحربي الأخير لبوتين والموجه إلى الغرب ليس موفقاً. المنافس الأول للرجل القوي المقيم في الكرملين هو الرجل القوي المقيم على عرش ماو وهو غير بعيد عن روسيا.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه