بقلم : سيلڤيا النقادى
الحديث لا يتوقف عن إعلانات التليفزيون فى رمضان، وما يصيب العقل من الشعور بالارتباك والتناقض المستفز وهو يشاهد هذه الخدمات التى تلبى احتياجات طبقات قادرة على دفع الملايين من أجل الحياة فى قصور وفيلات فى قلب العاصمة أو على أطرافها، وبين هؤلاء المساكين من المرضى والمحتاجين الذين يرفعون أياديهم للسماء فى انتظار من يرق قلبه ويساهم فى مشروعات تسمح بالعلاج أو سد الجوع!!.
التناقض عنيف.. قاس.. تبريراته منطقية عند البعض أو لا معقولة أحياناً كثيرة، لذا أفضل ألا أدخل فى صراعات المناقشة وأنا لا أملك جميع الخيوط سوى هذه المساحة أو هذا الملعب الصغير الذى أكتب عليه سطورى.
من هذا المنطلق الذى أشير فيه إلى «المسكن» ومساحته- وهو الحلم الذى يراود الملايين من البشر من أجل الحصول عليه- وجدت أنه من الأفضل أن أنقل مفهوماً آخر لمعنى «المساحة» شعرت به عند زيارتى الأخيرة لمدينة «أنتويرب Antwerpen البلجيكية، هذه المدينة الجميلة التى تطل على ميناء»، «أنتويرب بورت» وتتميز بمبانيها التاريخية وأزقتها وحواريها الضيقة التى تحوى بيوتاً صغيرة ومطاعم «وجاليريهات» لمختلف أنواع الفنون.. كنت أستمتع وأنا أسير أتأمل الأشجار المسكونة فى هذه الأروقة وهى تهتز بدلال حتى يختلس الضوء فرصته للإطلالة بين مساحات أوراقها الكثيفة لتتسق هارمونية مريحة بين المعمار والتخطيط الميدانى والخليقة الربانية بالرغم من هذه المساحات الضيقة.. كان هذا كافياً لإلهامى بمزايا الحياة وسط هذا الدفء المساحى الصغير الذى احتوى حواسى كلها وجعلنى أشعر أن المساحات الصغيرة ليست اختياراً أقل من الأفضل، بل هى فيها من الطاقة الإيجابية المفجرة للإحساس بالتواصل والدفء والأمان، وهى مشاعر لا يمكن منافستها مع أى شىء فى الوجود، يبدو أن هذا الشعور لا يصيبنى وحدى، بل ينعكس على عوالم الإعمار والتنمية، حيث يزداد الاتجاه أيضا نحو التصميمات الصغيرة، مثل ابتكار بيوت صغيرة على الأشجار، أو بناء عشش وأكواخ على الشواطئ، أو مطاعم تسع أربع طاولات فقط.. كل ذلك من أجل المزيد من الاحتياج للشعور بالاحتماء والحميمية بين البشر، وهو ما يذكرنا بفلسفة الفيلسوف الفرنسى «جاستون باشلار» فى كتابه «شاعرية المساحة» ١٩٥٨، والذى أكد من خلاله قوة وعمق الدفء الإنسانى تحت سقف المأوى الصغير، بشرط أن يتحرر أصحابه من الأشياء والممتلكات غير الضرورية ليصبح ملاذاً للحياة الجميلة، وبشرط أيضاً أن تتوافر خارج هذه الأماكن الصغيرة مساحات واسعة، صافية ومضيئة.
وربما تكون الحياة فى حارتنا المصرية الأصيلة أقرب إلى تجسيد هذا المعنى الذى يحاول باشلار أن ينقله - فعلا - ألم تكن جميلة ببساطتها وعِشرة أهلها؟، إنهم جميعاً كانوا يقطنون فى مساحات صغيرة.. الأمتار القليلة التى كانت تفصل بين المبانى والشرفات لم تخلق التنافر ولم تمنع البهجة، بل خلقت الحب والود والشهامة، وكما قال سقراط «إن سر السعادة ليس فى حجم الكم الذى تمتلكه، بل فى قدرتك على استيعاب القليل والاستمتاع به»، وهذا ما لم ينجح فيه هذا المجتمع الاستهلاكى الذى رسخ فى أذهاننا أننا لن نصبح سعداء إلا إذا عشنا فى بيوت كبيرة وامتلكنا أشياء كثيرة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع