بقلم - بسمة عبد العزيز
يكثر الحديثُ في مقالات وسرديات مُتنوعة حول ”القوة الناعمة“، مُصطلح يُفتَرض به أن يُمثِّل فئات المثقفين والكتاب والفنانين بوجه عام؛ هؤلاء الذين لا يملكون سلاحًا سوى قلمٍ أو ريشةٍ، أو عدسةٍ تلتقط مَشهدًا. يقارعون بالكلمةِ والحجَّةِ أو اللحنِ والصورةِ، يصلُ صوتُهم إلى العالم الخارجيّ بانسيابيةٍ وسهولة، فيؤثر بأعمق مما تؤثر الأسلحةُ والجيوش.
***
كَتَب في هذه الصفحة مُنذ برهة وجيزة، زميلٌ عزيز، عن مُصطلَح جديد، أو هو جديد قديم؛ كان، ثم توارى، ثم عاد ليحتل مكانه بين ما نستخدم مِن مصطلحات وتعابير؛ ذاك هو ”القوة الحادة“. مُصطلَح يُراد به التنويه والتنبيه إلى تغيُّرات تعتري أداءَ وتوجهات القوة الناعمة، ليست في مُجمَلها حميدة؛ إذ يجري بطريق أو أخرى دسُّ الزائفِ مِن المعلوماتِ، والشائهِ مِن الحقائق في قوالبِ الفن والدراما، وغيرها مِن أدوات القوة الناعمة ووسائلها، بما يجعلها هي نفسها بمنزلة أداة، تستخدمها السُلطةُ السياسيةُ في حروبها ومعاركها؛ تلك التي لا تتَّسم بالشرفِ والفضائلِ بطبيعة الحال.
***
”القوة الحادة“؛ تستخدمها أنظمةٌ شتّى في مُختلفِ أنحاء العالم، لتجميلِ صورتها أو تبرير أفعالِها أو تشويهِ الآخرين. تستخدمها في مُحاولة خداعِ الجماهير، والتلاعب بمشاعرِها، وتدجين وعيها، وتطويع إرادتها. لا تُستَثنى بالطبع الإدارةُ الأمريكيةُ، تحت قيادة دونالد ترامب، مِن زمرة المُتلاعبين المُخادعين، بل قد تأتي في مُقدمتهم.
***
حين قرأتُ ما كَتَبَ جميل مطر؛ يصفُ القوةَ الحادة في سلاسة وتشويق، ناوشتني أفكار حولَ مدى مُلائمة المُصطلَح لواقعنا. تساءلت إن عَبَّر بصدقٍ عن حال مثقفينا ومفكرينا وفنانينا. قلت في نفسي؛ لا شكَّ أنه ينطبق على البعض، لكنه قطعًا لا يَصِمُ الجميعَ، فثمَّة مَن يتمسكون حتى اللحظة بمواضعِهم ويصرون على مواقفِهم، لا يُرضُون السُلطةَ ولا يعجبون السُلطانَ، هُم موجودون وإن كانوا قِلّة.
***
رأيت اسمَ المبدع الكبير داوود عبد السيد، يَرِد ببلاغٍ هو في إطار المُضحِكات المُبكِيات، لا تخلو ديباجتُه مِن إبهام وتمييع؛ تحريض وقلب وإخلال بالحكم ونظامه. يَمثُل الفنانُ بين الأوراق؛ مُتهمًا بما لا يصدِّق عقلٌ ولا يجيز مَنطِقٌ. ترقَّبت ردودَ الأفعال، رحت أتابعها وأفتِّش عنها بملقط؛ فألفت تخاذلًا أليمًا، ونكوصًا ليس بعده نكوص، مِن أصحابِ ”القوة الناعمة“ وأهلِها. هَمَستُ لأصدقاءٍ بلا صَخب؛ صارت لنا قوةٌ نائمةٌ، لا يعلو لها صوتٌ ولا يُرى منها ضوءٌ، حتى وإن عَظُمَ المصابُ واستحالَ الخطبُ جللًا. قوة لا يجد الناسُ فيها عزمًا، ولا يرجون منها أن تصنع فارقًا ولو ضئيلًا في مُعادلةٍ صعبة.
***
منذ عقود، وقوةُ الفكرِ والفنِّ في حالٍ مِن التراجع والأفول، يسأل المهتمون عن المصير، ويتحسَّس المنزعجون بيننا المسارَ، ويقيس العالمون ببواطن الأمور ما نُنتج، مُتطلّعين إلى ما يُنتج أقرانُنا في البلدان المجاورة، والحصيلةُ النهائية مُؤسفة، فقوتنا الناعمة تتداعى شيئًا فشيء؛ فقدت رونقها على مدارِ سنواتٍ طويلةٍ سابقة، إلى أن ذَبلت نضارتُها في الفترة الأخيرة تمامًا، وصارت كما أوراقِ الشجر الجافة. القوةُ التي تسود الساحةَ الآن؛ لا لون لها، يبدو أفرادها مُتقاعسين عن القيام بأية مُبادرة، كثيرهم يحاول الإمساكَ بعصاه مِن المُنتصف، فقط كي يحفظ بها توازنه الشخصيّ، والحقُّ أن الخوفَ سيد؛ ففيلم سينمائيّ، أو دراما تلفزيونية، أو أغنية، أو حتى مَقالة؛ لا تأتي أيها على هوى الحُكّام، قد تودي بأصحابها إلى مَجهول.
***
القوةُ الناعمةُ في بلدان راسخة البنيان الديمقراطيّ؛ تصنع فارقًا. يقف مُخرِجٌ عتيد في الولايات المتحدة ليعارض النظامَ ساخرًا، وتَخطُب مُمثلة ذات قامة عالية لتنتقد رأسَ الدولة وتفضح مَسلكه، ثم يقاطعه فريق رياضيّ مُبديًا إزاءه كامل الرفضَ والازدراء؛ فلا يُصاب هذا بسكتةٍ فنية، ولا تتعرض هذه إلى حملةِ حصارٍ وتشويه بأوامر سياسية، ولا يُحرَم أعضاءُ الفريق مِن مَيزة أو مُكافأةٍ مادية، ولا يُسارع اتحادٌ رياضيٌّ بإصدار بيان تأييد، يُجلي فيه صفحَتَه مِن سوءِ أدبٍ مَزعوم أو قِلَّة احترام.
القوةُ الناعمة أحيانًا، الحادة في أحيان أخرى؛ تتحول لدينا إلى قوة باهتة، مُتخاذِلة، لا تهتدي ببوصلة، وتأبى أن تنظر الطريقَ.
نقلا عن الشروق القاهرية