توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن التوبيخ

  مصر اليوم -

عن التوبيخ

بقلم - بسمة عبد العزيز

مَن مِننا لم يتلق ذات يوم زجرًا وتوبيخًا، على فعلةِ سوءٍ ارتكبها غفلة أو عمدًا؛ فأفسد بها أمرًا وأخطأ حكمًا؟ لا أظن أحدنا قد عَدِم موقفًا استقبل فيه سيلًا مِن التوبيخ؛ احمرَّت له أذناه حتى تمنَّى أن يختفى مِن على وجه الأرض. التوبيخ فى لسانِ العرب هو التأنيب واللَّوم، ووَبَّخَ الرجلَ أى لامه وعذله، ويقال وُبَّخت فلانًا بسوء صنيعه.
هناك الكثير مما يُمكن أن يُقال عن التوبيخ، سياسةً واجتماعًا ونفسًا. هو فعلٌ يمارسه الأفراد فى علاقاتهم الشخصية؛ ربما دون تحفظات، وتمارسه المجتمعاتُ عبر العلاقات السلطوية فى منظومة مُعقَّدة مِن الحسابات. على المستوى الفرديّ؛ ينبع التوبيخ مِن مشاعر تبدو فى مُجمَلها سلبية؛ الاستياء والغيظ على سبيل المثال، وربما الغضب والضيق أيضًا، ولا تُشارك فى صناعة التوبيخ مَشاعرٌ إيجابية كالفرح أو الرضاء، فالراضون لا يلومون ولا يُوَبِّخون.

***

أغرب مَوقف تلقيت فيه توبيخًا مُباشرًا ومُبهرًا، كانت بطلته سيدةُ خمسينية تبيع الباذنجان. اقتربت منى فى إحدى الأسواق المعروفة، تحمل فوق رأسها طبقًا مِن الخوص به عبوات مُستطيلة مُغلَّفة بعناية، وتسألنى أن أشترى منها. شكرتها بغير اهتمام؛ فإذا بها تُنزِل الطبقَ عن رأسها وتنهال على توبيخًا: «يعنى أنا أقوم من الصبح بدرى، أنضف وأقور وأعبى، وبعدين تيجى انتِ تقولى لى شكرًا؟!«. لجمت لسانى المفاجأة؛ لم أتخيل أبدًا أننى قد أتلقى منها ردَّ فعلٍ هُجوميّ مثل هذا، فيه مِن التلقائية والعفوية ما يُسكِت ويكفى ويفيض، ولا يستغرق سوى ثوان معدودات.

***

التوبيخ فعلٌ مُزعجٌ لمَن يقع عليه، شافٍ لغليل مَن يقوم به؛ خاصة إذا لم يكُن فى استطاعته القيام بفعلٍ آخر. تُوَبِّخ الأمُ أطفالَها على ما قد تُعِده قِلة تهذيب، أو ما تراه تقصيرًا فى الدراسة وإهمالًا للدروس، أو شقاوة تفوق الحدودَ، تريد أن تجعل مِنهم الأفضل والأذكى والأمهر؛ أن يتفوقوا على بقية أطفال العائلة والأصحاب والجيران، وأن تُباهى بهم الآخرين. تُوَبِّخ وتنتقد وتلوم، وأحيانًا ما تتمادى، وتنسى أن كثرة التقريع قد لا تستجلب فى النهاية إلا عنادًا، وقد لا تدفع إلا إلى تجاهُلٍ وبلادة.
يُوَبِّخ المدير مُوظفيه، والقائد مَرئوسيه، يُستَخدَم الفعلُ هنا مجازًا، لكنه أيضًا يُوَصِّف عقوبة قانونية مَفادها؛ إخطار الشخصِ المَقصودِ كتابة بمُخالَفة وقع فيها، وجعلت سلوكه غير مُرضٍ للرؤساء. قد يصحب هذا التوبيخ أو يليه عقابٌ جَسيم؛ خصم أو نقل أو ربما حرمان مِن ترقية ومكافأة. فى بعض الأحيان يتطور الأمر إلى إقالة، أو استقالة إجبارية، وفى أحيان أخرى يُسفِر عن انسحاب طَوعيّ للمُخطئ؛ قائمٍ على إحساسه الأصيل بالمسئولية؛ وتلك نادرة، قلَّما تُرى فى مُجتمعات تتوارى ضمائر أفرادها أسفل ركام الفساد.

***

فى بعض المُجتمعات يشعر المَلوم بإهانة شديدة، تدفعه دفعًا إلى طلب الصفح والمغفرة، أو على الأقل تحثّه على توضيح موقفه والدفاع عن نفسه، وفى مُجتمعات أخرى؛ يُقابَل اللومُ والتوبيخُ بالتجاهُل مرات، وفى مرات أُخرى بردٍ صَفيق، لا حياء فيه ولا خجل، لا اعتراف بخطأٍ ولا إبداء لندم، والأمثلة كثيرة لا أول لها ولا آخر.

***
الهدف الافتراضى النبيل مِن التوبيخ، هو دفع المخطئ إلى بذل جهد أعظم، إلى تحقيق تقدُّم ما؛ تصحيح مسار أو تقويم مسلك؛ سواء على الصعيد المادى أو المعنوى، هو أداة لإحاطة المرءِ بزلَّته، ووسيلة للوقاية مِن تكرار السقطات. فى غياب المقاصد النبيلة والنوايا الحسنة، قد يغدو التوبيخُ مَهربًا وجيهًا؛ يُمارَس حفظًا لماء الوجه، وإعفاءً مِن الحرج، وتنصُّلًا مِن المسئولية، فيما لا يكون فاعله بريئًا. يخرج بعض المسئولين مِن مواقف عصيبة، عبر توجيه أصابع اللوم والتأنيب إلى آخرين؛ يحتلون الموقع الأدنى فى سُلم القوة والسُلطة.

على كل حال ليست القاعدة أبدًا؛ أن يأتى التوبيخ من أعلى إلى أسفل؛ فجميعنا يُمارس هذا الحَقَّ، ما سمحت الظروف واستدعت المواقف، وما أَمِن العواقبَ أو حتى توقعها ولم يأبه لها. قد يكون مُصيبًا أو لا يكون، قد يؤنِّب مَن هو أرفع مِنه منصبًا أو مَن يدنوه منزلة، عوامل شتى تحكم المسألة، وتحفظ لها قدرًا مِن المرونة.

***

لم أتخيل أننى سأتلقى هذا السخطَ الشديدَ مِن بائعة الباذنجان؛ كونى لن أبتاع منها، ما قُدِّرَ له أن يصير على مائدة الطعام «حلة محشي«؛ حلة المحشى فى حقيقة الأمر لا تمثل لى إغراءً كبيرًا، لكنها فى عرفها ذات مكانة وقيمة؛ جزءٌ مِن كدِّها وكدحِها اللذين يستحقان التقدير. أشعرتنى عبارتها بالذنب، وبأن عليّ تقديم اعتذار صادق عن سوء سلوكى، ورعونتى، وتجاهُلى ما بذلت مِن جهد، وما عانت مِن صعوبات. تصورت مُطاردات الحيّ، وسخافات مُصادرة بضاعتها البسيطة بين يوم وآخر، ومَشقَّة الطريق الذى تقطعه قادمة مِن خارج العاصمة أو مِن هوامشها وأطرافها، ونظرت إلى كفَّيها وأصابعها المُتشَقِّقة المُتَكَلِّسة، ثم هَمَمت باسترضائها؛ لكنى تأخرت لحظات، كانت قد حملت خلالها الطبق، ومَضت.


نقلا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

GMT 01:13 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

التوافق ينتصر للسودان .. والمعركة مستمرة

GMT 01:12 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

مصر الفيدرالية

GMT 01:06 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

فاتورة الحرب.. مدفوعة مقدمًا!

GMT 05:30 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

مشاكل ترامب أمام القضاء الأميركي

GMT 05:29 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

من مفكرة الأسبوع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن التوبيخ عن التوبيخ



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية

GMT 12:20 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

طلائع الجيش يبحث عن مهاجم سوبر فى دوري المظاليم

GMT 15:09 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

فان ديك يحصد لقب أفضل لاعب بنهائي دوري الأبطال

GMT 15:15 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مشروع "كلمة" للترجمة يصدر "كوكب في حصاة"

GMT 20:20 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

صدور رواية "الطفلة سوريا" لعز الدين الدوماني
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon