بقلم - إبراهيم عبدالمجيد
احتاجت الصحافة بعد نشأتها إلي شيء من الوقت حتي تدرك أنها باعتبارها نافذة يومية علي الأحوال لابد أن تسلك مسلكا مغايرا لما استقرت عليه اللغة الأدبية في الكتابة. الصحفيون أدركوا شيئا فشيئا أن مخاطبة قارئ يومي عادي أمر يحتاج إلي الابتعاد عن الجماليات الأدبيه القديمة التي تحتاج قارئا متمرسا لديه الوقت ليفهم ويستمتع أيضا بالصياغة الأدبية وإن لم تتخلَّ الصحف عن إفراد صفحات لكبار الكتاب والأدباء. بل وكانت بعض الصحف المصرية في بداية القرن العشرين تضع في صفحتها الأولي قصيدة كاملة لشاعر كبير. لكن ذلك قل مع الوقت حتي انتهي وإن ظلت الصفحات الثقافية. دون شك كان لهذه الكتابة الصحفية الجديدة أثر علي تطور اللغة العربية ونزولها منزلا سهلا لدي القارئ ودون شك حاول الأدباء الذين يكتبون في الصحف بدورهم عمل ذلك ولكن ظلت للأدب مكانته وإن حظيت روايات كبار الصحفيين الموهوبين مثل إحسان عبد القدوس بقراءة أكثر من غيرها وكذلك يوسف السباعي وهذان الكاتبان الكبيران كانت موهبتهما الأدبية تزاحم موهبتهما الصحفية وحين كانت الموهبة الأدبية تطغي علي الكتابة كان إبداعهما أعظم كما تري في أعمال مثل » في بيتنا رجل » و» شيء في صدري » مثلا لعبد القدوس و» السقا مات » و» بين أبي الريش وجنينة ناميش » للسباعي وغيرها من الأعمال. بينما استطاع صحفي كبير مثل فتحي غانم أن تكون لكل رواياته آفاق أدبية أكبر من أي لغة صحفية. كان تأثر الأدباء بالعصر الجديد واضحا في التطور الذي جري علي الشعر أيضا من القصيدة العمودية إلي قصيدة التفعيلة إلي قصيدة النثر أخيرا لكن الشاعر في كل ذلك لم يتخل عن إسهامه الأول وهو تقديم صورة فنية مبتكرة. الأمر نفسه جري علي القصة القصيرة منذ المدرسة الحديثة في ثلاثينات القرن الماضي التي جعلت التخفف من الجماليات التقليدية للغة مثل الجناس والطباق وغيره أمرا ضروريا لتصل المعاني الجديدة للقارئ في الوقت الذي صارت للغة جمالياتها من منطقة أخري أولها الشكل الأدبي.
الصحافة راحت تقترب كل يوم من القارئ حتي وصلنا إلي كتابة الفضاء الإلكتروني بكل ما فيها من عشوائية لتقترب أكثر من الشرائح الجديدة للقراء الذين يمكن إجمالهم في صفة قراء التيك أواي أو الكاجوال وهذه ليست ذما، لكنه نوع من القراء ازداد جدا بحكم تغيرات كثيرة في المجتمع ليس هنا مجالها وعلي رأسها اليأس وقلة الحيلة وإجبارهم علي أن يكونوا في الهامش فراحوا من هذا الهامش يسخرون من كل شيء ولا يعطون قيمة لشيء ووجدوا أفضل مكان لهم هو المواقع والمدونات علي الإنترنت فملأوها والتفوا حولها أكثر من أي شيء وهنا وقع الضرر الكبير علي الأدب. الضرر ليس من هؤلاء الشباب الذين أتضامن معهم وإن كنت أعرف أن ما يكتبونه لن يصمد طويلا للزمن ولكن الضرر وقع ممن اعتبروا أن هذا هو الأدب بينما هو صحافة أقل من العادية وإن اختلفت قنواتها. وهكذا صارت الخواطر قصصا قصيرة وصار الحكي الفارغ رواية والضرر الذي جاء من النقاد هو الصمت. مهنتنا هي المهنة الوحيدة في الكون التي تتسع لكل التعبانين لكنها أبدا لم تتسع لكل المتشبهين بالأدباء بهذه الكثرة إلا في هذا الزمن الذي صارت فيه القراءة في دقائق هي عنوان القراءة الحقيقية والكتاب الذي ينسي بعد قراءته في الحال هو الذي تقول عنه دور النشر قصة ورواية.
للأسف انتهت الآن المشكلة الحقيقية القديمة بين الصحافة والأدب وصار عنوان الأدب المطلوب هو الصحافة السهلة دون أي مجهود يبذل في الشكل الأدبي وصياغته ولا ينتبه أحد أنه كما ينسي القارئ اليوم عدد الصحيفة أمس سينسي غدا ما قرأه اليوم أيضا حاملا عنوان الأدب وهو ليس كذلك. الأدب أيها الأدباء الذين تفعلون ذلك ليس مجرد حكايات لا تحمل إلا أخبارا عن شخص خرج ليقابل حبيبته فلم يجدها ولا شخص يقرر أن يتأخر في العودة إلي منزله فيعود مبكرا ولا شرح وتفصيل لأسباب وأهداف ما تفعله شخصيات الرواية فهذا قديم جدا والمواقف هي التي توضح الشخصية ونفسيتها. الأدب رواية أو شعرا أو قصة قصيرة بناء فني قبل أن يكون حكيا وبناء قطع فيه الأدباء تاريخا من التجديد والمعارك الأدبية وكلها كانت تدور حول البناء الفني وحول اللغة واستخدامها. انتهت معارك قديمة مثل العامية والفصحي مثلا ليكون الصدق الفني معيار اختيار أيهما في الحوار. والصدق يعني أن تقرأ الحوار فتشعر أنه ملك صاحبه وليس ملك كاتبه وأشياء كثيرة تحتاج إلي مقالات تجعل للأدب مكانه لكنها للأسف تتضاءل جدا اليوم لتصبح الكتابة أقل من الصحافة وأقرب إلي »التيك أواي». فكثير جدا من الكتاب يتشابهون لأنهم من مطبخ واحد هو الاستسهال في الحكي للأسف الشديد
نقلا عن الاخبار القاهريه