بقلم : هنا أبوالغار
منذ اخترع التليفزيون فتحنا له بيوتنا، من أول وهلة احتل منزلة عالية، واستثمرنا فيه مثل الثلاجة والبوتاجاز واعتبرناه لا يقل أهمية عنهما، وضعناه فى مكان مميز فى الحجرة التى نقضى فيها معظم أوقاتنا، أصبح صوته وضوءه خلفية لمعظم جلساتنا العائلية وكثيرا من الوجبات التى تجمعنا. الشاشة أصبحت جليسا لأبنائنا، كلما ملَّوا من وقت فراغ، أو احتجنا إلى التركيز فى عمل بعيد عن صخبهم نفتح التليفزيون ونضعهم أمامه. قلَّت المحادثات بين الزوجين، وبين الأبناء وآبائهم، لأن الحديث يصعب فى وجود فيلم أو برنامج أو إعلان يجذب أحد أفراد الأسرة أو أكثر لمتابعته. ومع دخول الكمبيوتر واللاب توب والبلاى ستيشن وأخيرا التليفون المحمول معظم البيوت، واتصالهم جميعا عبر الإنترنت أصبحت الشاشة أداة للعب الإلكترونية، ومشاهدة الأفلام، ومتابعة الموسيقى وبرامج الكوميديا، كما أصبحت أداة لتواصلنا مع القريب والبعيد. الشاشة أخذت مكان الكتب وأصبحت مصدر غير مسبوق للمعلومة بأقل تكلفة أو عناء، وأصبحت طريقة من طرق التعليم والبحث العلمى ونشر المعرفة، بالإضافة إلى كونها مصدرا للأخبار والأحداث فى لحظة وقوعها.
دخول الشاشة حياتنا من أول التليفزيون إلى التليفون المحمول مرورا بالكمبيوتر غيّر كثيرا فى ديناميكية الأسرة، فى جدولها اليومى وعاداتها، والأهم أنها أثرت كثيرا فى أجيال من الأطفال والشباب فى وقت تكوين الفكر وتشكيل الشخصية، تقول الأبحاث إن الأطفال بين الثامنة والثامنة عشرة يقضون ما بين ثمانية وعشر ساعات يوميا أمام شاشة من أى نوع، ومع ظهور أعراض مقلقة نفسية وجسدية واجتماعية على هذا الجيل، اهتم الباحثون بدراسة تأثير الشاشة على الطفل والأسرة وخرجوا ببعض النتائج:
قضاء الوقت أمام شاشة من أى نوع يحرم الطفل من أن يلعب أو يستخدم خياله أو يحرك جسمه، وبالتالى يفقد مهارات التواصل والقدرة على حل المشكلات مع أقرانه، كما أنه يفقد الحافز للابتكار لأن الشاشة أداة تفرض نفسها على الطفل فهى ترسل أكثر مما تستقبل.
الشاشة أيضا تستخدم داخل المنزل وفى حجرة مغلقة، وبالتالى لا تشجع الطفل على الخروج إلى النادى أو الشارع وتحرمه النشاط الجسمانى، وبالتالى تزيد من نسب السمنة لدى الأطفال.
الألعاب الإلكترونية قائمة على فكرة إشباع رغبة الشخص (كبارا وصغارا) فى النجاح والتفوق، وبالتالى فمعظم الألعاب تعطى اللاعب إحساسا كاذبا بالنجاح «السهل» بدون عناء أو عمل جاد أو شاق عندما يكسب ويتفوق وينتقل إلى مرحلة متقدمة من اللعبة، وهناك أبحاث وجدت أن هذا الإحساس ينبع مع إفراز الهورمونات والكيماويات فى المخ مشابهة لما يفرز فى مدمنى السجائر والمخدرات أو الخمور والقمار وأنها وراء رغبة الشخص (طفلا أو بالغا) الملحة فى الاستمرار فى اللعب لساعات طويلة وهو ما بدأ يسمى «Screen dependency» أو «الاعتماد على الشاشة».
ربطت الأبحاث بين زيادة أمراض النفس لدى الأطفال مثل القلق والتوتر والصعوبة فى التركيز لمدة طويلة والانطواء والاكتئاب والأحلام المزعجة والصعوبة فى الدخول فى النوم وبين المدة التى يقضونها أمام الشاشة، والأهم من المدة هو كيفية استخدامها، فالألعاب العنيفة والأفلام التى بها عنف أو حتى أفلام الأطفال التى بها حركة وإثارة لها تأثير خطير على صحة أطفالنا النفسية.
***
التواصل عبر الإنترنت مع العالم يضع الطفل فى خطر سواء للاستغلال فى أعمال العنف أو الجنس أو حتى فى التعرض للضغوط من الأقران أو للبلطجة غير المراقبة من الكبار. فمجموعات الشات على الواتس آب أو وسائل التواصل الاجتماعى تسمح بممارسات مثل التنمر أو البلطجة «bullying» وهى ظاهرة فى كل مدرسة وجامعة وحتى أماكن العمل فى العالم كله وهى قادرة على تحويل حياة الطفل أو الشخص البالغ إلى جحيم.
لأن الشاشة لها مزايا كثيرة كما ذكرنا فى مجال المعرفة وأحيانا فى التواصل بين أشخاص ومجموعات عمل، ولأنها أصبحت جزءا من حياتنا اليومية لن نستطيع أن نقاوم وجوده، فعلينا أن نقنن استخداماتها خصوصا فى بيوتنا مع أطفالنا. وتوصية جمعية أطباء الأطفال الأمريكية الحالية هى منع استخدام الشاشة من أى نوع قبل سن الثانية، ولا يزيد تعرض الطفل لها عن ساعة يوميا حتى سن الخامسة، ثم التركيز على تقنين استخدامها ما بين الخامسة والثامنة عشر عاما خاصة فيما يخص المحتوى.
***
«ابنى لا يهدأ إلا أمام الكارتون»، «أنا غير قادرة على إقناع ابنتى بترك الشاشة حتى لو عرضت عليها اللعب مع الأصدقاء والذهاب إلى النادى»، «الساعات التى يقضيها ابنى على التليفون فى تزايد»، «ابنتى تكذب على عندما اسألها عن عدد ساعات استخدامها للبلاى ستيشن»، «عندما أمنع ابنى من استخدام اللاب توب يكون رد فعله عنيفا». كلها علامات مقلقة تدل على بداية «إدمان الطفل للشاشة» ويجب التدخل لحلها أو الافضل أن نكون واعين لاحتمال حدوثها فنمنعها قبل وقوعها.
جزء مهم من التربية الإيجابية هو وضع قواعد للمنزل يتحرك فيها الطفل شاملة مواعيد النوم والأكل ونوعية الأكل.. إلخ، ويضاف إليها الآن قواعد استخدام الشاشة، ومثل كل شروط التربية الإيجابية فلابد أن نبدأ بأنفسنا لأنه من المستحيل تطبيق قاعدة على أبنائنا يرون أننا نكسرها، وإشراك الأطفال فى وضع القواعد هام لأنها تجعلهم أكثر تعاونا فى تطبيقها. أهم هذه القواعد عدم دخول الشاشة من أى نوع مكان الأكل أو حجرة النوم، وجود تليفون أو تليفزيون أثناء الوجبات يمنع التواصل بين أفراد الأسرة، ووجودها قبل أو أثناء النوم يقلل من ساعات راحة الطفل ويزيد من توتره وقلقه ويجعل ملاحظتنا لعدد ساعات استخدام الشاشة ومحتوى اللعبة أو البرنامج مستحيلا.
***
نحتاج أن نحول الشاشة من حق مكتسب إلى وقت مكتسب، بمعنى أن أطفالنا يدركون أن دقائق أو ساعات استخدامهم للشاشة مرتبط بعمل منزلى نطلبه منهم أو واجب مدرسى أنهوه... إلخ، ويمكن عمل «حصالة» لادخار عدد الساعات التى كسبوها. لقاء الأسرة حول وجبة يوميا أمر هام للتواصل بين أفرادها يضاف إليها نصف ساعة أو ساعة يوميا ندخرها كأبوين للعب أو عمل نشاط جماعى نعطيهم فيه انتباهنا الكامل دون استخدام أى منا للشاشة هام جدا لأنها تقربنا منهم لكن أيضا لأنها تفتح أبوابا للاستمتاع بعيدة عن الشاشة.
الشاشة إدمان للكبير والصغير، ومعظمنا يدرك هذا، ويجد فى مقاومتها صعوبة بالغة، لكن وقعها على مخ الطفل الذى لم يكتمل نموه بعد خطير، وحمايتهم من الشاشة يجب ألا تقل فى الأولوية عن حمايتهم من مخاطر الطريق أو التدخين أو الإدمان، خاصة أن الشاشة موجودة فى متناول يدهم طوال اليوم والليل وهو ما لا ينطبق على معظم المخاطر الأخرى.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع