بقلم: نشوى الحوفى
فى كتاب رائع حمل اسم «تاريخ ضائع»، صادر عن مؤسسة ناشيونال جيوجرافيك عام 2007 للدبلوماسى الأمريكى الأسبق مايكل هاميلتون، وترجمته دار نهضة مصر للنشر فى حينها، تقرأ عن الحضارة العربية بكل أبعادها التى حوت الآخر أياً كانت عقيدته، ومنحت الأكفاء منهم فرصة المشاركة فى بنائها، وأعملت الفكر دون وضع قيود عليه فى كافة المجالات بين طب وفلك وفلسفة يونانية ومنطق وهندسة وزراعة، وأبدعت فى الفنون جميعها، بين موسيقى زرياب وعمارة بغداد والأندلس والقاهرة ونقوش النسيج وصناعة الزجاج والعطور، وتتلمذت فى المدارس لإدراكها أن العلم مفتاح النهضة.
حتى إن الكاتب يرفض تعبير «العصور المظلمة» الذى يتحدث عنه الغرب واصفاً حال أوروبا قبل عصور النهضة فى القرن 14 ميلادى، مبرراً ذلك بقوله إنه إذا كانت أوروبا قد عاشت عصور الجهل والتخلف، ففى الشرق والأندلس كانت الحضارة العربية تنير سماء العالم عبر إحياء ما سبقها من حضارات بالترجمة والإضافة لها، بإبداع العقل الذى احتفى به القرآن ليكون نحو عُشر آيات القرآن عن العقل وأعماله.
تقرأ عن الخليفة المأمون (170-218 هـ)، الذى جعل بغداد عاصمة العلم فى العالم وتأثره بأرسطو وبنائه لأعظم مركز للتعلم فى بغداد لتأييد الفكر والاستفسار الحر والفلسفة والعلوم والرياضيات والفلك، مطلقاً عليه «بيت الحكمة»، الذى ضم علماء فى كل فكر حتى علم اللاهوت المسيحى، والخوارزمى من ترك للبشرية إبداعات فى علوم الرياضيات والساعة الشمسية ووضع الصفر بين الأرقام وكتابة أبحاث الأسطرلاب، وابن الهيثم مؤلف أكثر من ٢٠٠ كتاب ومؤسس النظريات الرياضية والبصرية التى مهدت الطريق لجاليليو وكوبرنيكوس فى فهم حجم الأرض والعلاقة الحقيقية بين الأرض والنجوم وأبحاث الضوء، والإدريسى عالم الجغرافيا، وعمر الخيام أول من صاغ نظرية كروية الأرض ودورانها حول نفسها، وعباس بن فرناس معلم الموسيقى ومؤسس علم الطيران وصانع أفخر أنواع الزجاج، وجابر بن حيان عالم الكيمياء طبيب هارون الرشيد مخترع الأمبيق أداة تقطير الكحول، والفارابى عالم الموسيقى.
تتذكر كتاب «تاريخ ضائع» وأنت تستمع لتصريحات عائض القرنى المعلن للندم على التشدد فى الفكر! وهو للحق لم يكن بمفرده، بل معه سائرون على دربه فى السعودية ومصر وغيرهما من الذين تحدثوا عن قشور الدين ورفضوا تجديد الفكر وفضّلوا النقل عمن اجتهدوا لزمانهم بظروف عصرهم، وكان لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.. فصاروا كالسائرين نياماً ومن ورائهم من تبعوهم باسم الدين.
نعم يا سادة، نحن بلاد مئات الآلاف من المساجد والكنائس، ولكن للعجب نشكو ضياع الخلق والقيم. نحن أمة «اقرأ» التى لا تقرأ، وتنفق مليارات على برامج المقالب والفضائح والسب، ولكنها لا تنفق ربع ذلك على برامج العلم والتكنولوجيا وتطوير الفكر والسلوك، وعلماؤها غارقون فى دنياهم، بين داعٍ لتطرف، أو ساعٍ لمنصب ومكانة، أو مروج لخرافات، إلا من رحم ربى، وهم قليل. نعم، نحتاج صحوة ضمير لأمة كان أول تكليف لها القراءة لتكون الرسالة المحمدية إيذاناً بدولة العلم والفكر والإنتاج.. رسالة أدركها الأوائل وأضاعها عبيد السلطان حينما أضاعوا العقل وأفعاله وحرموا الفكر وإنتاجه. واليوم يعتذرون؟!!