بقلم - د. ليلى تكلا
يروى لنا التاريخ أن الدول التى تحررت من القهر والديكتاتورية وتسلط الحكام أو رجال الدين حققت ذلك بسبب عوامل متعددة أهمها تيارات فكرية دعمتها الشعوب ولم تقتصر على نظريات سياسية أو فلسفية قدمها المفكرون أو القادة السياسيون أهمها حركة الإصلاح Reformالتى استهلت المناداة بالفصل بين الدين والسياسة، وشارك فيها بعض رجال الكنيسة ثم حركة النهضة Renaissance التى بدأت من إيطاليا فى القرن السادس عشر اثرت فى الفلسفة والأدب والفن والموسيقى والسياسة والعلوم والدين ونهضت بها.
والتنوير Enlightenment حركة فكرية ثقافية فلسفية بدأت فى القرن الثامن عشر فى أوروبا تدافع عن العقلانية والتفكير والمنطق مصدراً للمبادئ والأخلاق والمعرفة والعمل على التطوير والتحديث من أجل التقدم والارتقاء بعيداً عن الأفكار اللاعقلانية والتقاليد والطقوس وتصديق الخرافات وعن غرس الثقافة التى تقوم على جمود الفكر وظلام العقل وهى لا تقتصر على وقت معين أو مكان معين انما تحتاجها الدول أينما كانت كى تتخلص من الأتوقراطية أو من سيطرة الحكام على العقول باسم الدين والارتقاء بمستوى الإنسان.
والتنوير لا يعنى البعد عن الدين بل على العكس يدعو لتسليط الضوء على مبادئ الأديان وتعاليمها والفهم الصحيح لها وعدم ترديد الآيات أو الدعاء دون فهم. التنوير يعطى قيمة لهبات الله ويحترمها وأهمها هبة العقل الذى إما يضيء للإنسان طريق حياته أو يطفئها.
ومصر تعيش اليوم وسط هذه التيارات كلها فى آن واحد نحتاجها جميعاً وأهمها فى تقديرى التنوير. بدون التنوير المعلومات والمعرفة وحتى التفكير لا يحقق الأهداف الإيجابية المطلوبة, فالمعلومات الخطأ والتفكير المحدود أو المفروض كلها تصبح ادوات للتخلف وليس للتقدم. التنوير هو الذى يضيئها ويفرق بين الخطأ والصواب.
التنوير يعنى بث أسلوب معين فى الفكر وفى السلوك، وبذلك يرتبط بالعوامل التى تؤثر فى تصحيح ذلك السلوك وفى مقدمتها الثقافة ، مما يقتضى الاعتراف بأهمية الثقافة بمعناها الشامل ودورها فى تشكيل المجتمعات وتنوير العقول. إننا عندما نريد غرس قيمة معينة أو تصحيح سلوك ما، نطالب بنشر الثقافة التى تؤدى لذلك. وكى تتمكن الثقافة من تحقيق تلك الأهداف علينا أن ندعو إلى نشر «ثقافة الثقافة». أى الثقافة التى تضع الثقافة فى مكانها اللائق والاعتراف بدورها وبالأولوية التى تستحقها كاحدى آليات تطوير المجتمع مما يعنى الاهتمام بالمكون الثقافى فى برامج التخطيط وتوفير الإمكانات اللازمة لوزارة الثقافة حتى تؤدى دورها. ولا يمكن لوزارة الثقافة أن تقوم بهذه المهمة وحدها. كل الأجهزة عليها الالتزام بدورها فى نشر الثقافة التى تحتاجها التنمية والتنوير والاستقرار والازدهار وحماية المواطن وكرامته إلى أن يصبح الفكر المستنير الحياة. إن الدعوة إلى ثقافة الثقافة والتنويرب تستحق أن تجد مكانها بين المفكرين والكتاب والمخططين والمنفذين.
التقرير الذى اصدرته المفوضية العالمية للثقافة والتنميةب دعا الدول لعقد مؤتمرات دولية واقليمية للمتابعة كان أشهرها وأهمها «مؤتمر فلورنس» الذى شارك فيه عدد كبير من القيادات الدولية والسياسية والاقتصادية. خصصت جلسة للاقتصاديين ورؤساء البنوك، دعوا جميعاً إلى توفير الموارد اللازمة لأجهزة الثقافة والتنسيق بينها. والمؤسسات التى تسهم فى بث الثقافة الصحيحة متعددة - أشرنا إليها سلفا - نتناول الآن ثلاثة منها: التعليم والإعلام ثم الخطاب الدينى والفتاوي.
وزارة التعليم هى الخط الأول المسئول عن وعى الأمة وأمنها الثقافى وتشجيع الإبداع وغرس القيم الصحيحة فى الطالب. لكن... كيف نغرس قيمة النظافة والنظام بينما المدارس تغرق فى القذارة. كيف تتذوق العين الجمال ونطالبه بالإبداع ونحن نحرمه حتى من التفكير. كيف ينمو وهو يقّدر الفنون إلا إذا تعلم تذوقها فى المدرسة ودورها فى ترقية الوجدان وحتى يستوعب قول العقاد أن الجمال قرين الحرية، وأن الأمة التى تعرف قيمة الوردة واللوحة هى الأمة القادرة على التقدم. وماذا نقول لوزارة نسيت برامج الفنون وأهملت حصص الهوايات؟
من أين يأتى التنوير بينما الإعلام يقوم بإشاعة ثقافة العنف ومسلسلات أغلبها هزيل، وبرامج تبث ثقافة التمييز بين الأديان وإشاعة الاحتقان بين الطوائف بدلاً من غرس ثقافة احترام الاختلاف بأنواعه؟ رأينا فتاوى تحرم مهن الطب والهندسة والعمل فى البنوك بدلاً من غرس قيمة حب العمل واحترام العلم، وسمعنا من قال إن على المرأة أن تنتقب، وأن تظهر عينا واحدة للأجنبى حتى لا يفتتن بها. وكان المفروض أن تسهم فى غرس ثقافة احترام المرأة. وهناك الخطاب الدينى غير المستنير الذى يطلق فتاوى تطفيء نور العقل فيعيش الإنسان فى ظلام «السمع والطاعة». كل ما تشعه أجهزة وزارة الثقافة من استنارة تطفئه خطب ومواعظ فريق من دعاة التطرف الذين ينتشرون فى المساجد والزوايا فضلا عن دخول نوع من الدعاة الجدد فى الأندية والمجالس، كيف يتحقق التنوير فى ظل فتاوى تنادى بأن الصور المرسومة حرام، والشطرنج حرام، والبيع بالتقسيط حرام، توزيع الحلوى فى المولد النبوى من البدع الفجة، وأن لبس الرجال للبنطلونات حرام، والعطور نجس، ولا يجوز للمسلم أن يبدأ بالسلام على نصراني؟ يدعون إلى سلفية بالغة التشدد ساهمت فى إشعال فتيل الاحتقان الطائفى والمذهبي، وتصاعدت بالعداء للفنونبوزاد الطين بلة ما أصدره «مفتي» من فتوى رسمية تصب فى تحريم الفنون. لقد أحسنت الدولة بإغلاق بعضها وإن كانت تأخرت.
فى مجتمعاتنا يزداد الاهتمام بقضية ما عندما تهتم بها القيادة وخاصة إذا ما دعمها رئيس الدولة. الرئيس السادات اهتم بأهل الفن والنجوم وكرمتهم الدولة فى عيد الفن، والرئيس السيسى عقد بعض اجتماعات مع بعض المثقفين والمفكرين، ويحسب للرئيس منصور أنه تعامل مع الثقافة بشقيها العام والخاص. عقد فى الأوبرا احتفالا لتكريم أهل الفن والإبداع كما عقد فى الاتحادية احتفالاً لتكريم الكتاب والمفكرين، والمثقفين الحائزين على جوائز الدولة. اهتمامهم بالثقافة يسهم فى نشر اثقافة الثقافة والتنوير لأنه إشارة وقدوة ورسالة تدعو سائر المؤسسات المسئولة عن التثقيف إلى مراعاة المكون الثقافى فى عملها وحتى لا تعرقل جهود بعضها البعض وهو - مع الأسف - ما يحدث الآن حفظ الله مصر.
نقلا عن الاهرام القاهرية