بقلم-حنا صالح
بعد 252 يوماً على التكليف، لم يستطع الرئيس الحريري في بيان تأليف الحكومة الثلاثينية، إلا التوجه بالاعتذار من اللبنانيين على التأخير بإنجاز الحكومة، تأخير فاقم من المعاناة وهمّش بشكل أكبر دور البلد؛ لأنه يدرك أن حكومته بالكاد تحمل الحد الأدنى من مواصفات سلطة تنفيذية في بلد يعيش حالة اختناق على كل المستويات؛ لذلك عندما سئل هل بمثل هذه التركيبة يقلع البلد، أجاب: «من وين بدي جيب وزراء»!!
من الآخر، لقد جدد تأليف الحكومة التسوية السياسية التي أنهت الفراغ الرئاسي قبل عامين، وهي التسوية التي قامت على مقايضة طائفية، محاصصة بالمقاعد مقابل تسليم بالقرار والموقف.. مقايضة التزم بها كل الأطراف فسقط النأي بالبلد عن حرائق المنطقة ولم يعد سلاح الحزب والتدخل في الحرب على الشعب السوري وانتهاك السيادة، كما ممالأة محور الممانعة تشكل أي عائق أمام مستوى التحالف بين الأطراف المنخرطين فيه؛ ما أفشل المحاولات الكثيرة التي جرت للتحجيم الشديد أو الإبعاد، فجاءت الحكومة كما قال رئيسها على «صورة لبنان 2019»، لبنان ما بعد الانتخابات التي أعطت أغلبية مريحة لـ«حزب الله». إنها حكومة الحزب كما أرادها، إنْ في التوازنات السياسية أو في الحقائب.
أبرز ما يميز الحكومة، أنه للمرة الأولى منذ عام 2005 تمكن «حزب الله» من كسر أحادية تمثيل تيار المستقبل في الطائفة السنية بفرض توزير حلفائه، وهذا الأمر سيُبنى عليه مستقبلاً في تشكيل الحكومات اللاحقة... وبالمقابل كسر «التيار الوطني الحر» ورئاسة الجمهورية أحادية التمثيل الجنبلاطي للدروز، وهذا تم بالتوافق مع «حزب الله»، واللافت أن الوزير المقصود صالح الغريب، وجّه تحية الشكر للوزير السابق طلال أرسلان المعول عليه من دمشق بوجه زعامة الوزير وليد جنبلاط، تسلم حقيبة بالغة الأهمية وهي شؤون النازحين، مع كل ما تعنيه مسألة انقسام المجتمع اللبناني حول كيفية التعاطي مع النازحين، مع ارتباط هذه الجهة بالنظام السوري. وفي حسابات الربح والخسارة، نجح الوزير جبران باسيل في فرض تحجيم جزئي لحزب «القوات» وخصمه الرئيسي سمير جعجع، والتحجيم تناول عدد الوزراء ونوعية الحقائب، ومراراً تم وضع جعجع أمام حتمية القبول بما تُرك لحزبه أو الخروج من التشكيلة.
ومن الميزات أيضاً، فوز الوزير باسيل بالحصة الكبرى، وهو أعلن ذلك: «حصلنا على أكثر مما كنا نريد»، ونال التيار ورئيس الجمهورية معظم الحقائب التي طالب بها، لكن البناء على ذلك للذهاب بعيداً في معركة الرئاسة المقبلة لن يفيد كثيراً وزير الخارجية، خصوصاً أن حبر موقف الشيخ نعيم قاسم لم يجف بعد وهو من أعلن أن المواقع الوزارية منعدمة التأثير في الاستحقاق الرئاسي. هذا فضلاً عن أن الشكوك كبيرة أن تمنح هذه التركيبة تيار الرئاسة الثلث المعطل بشكلٍ دائم؛ فالوزيران السني والدرزي سيقفان في القضايا المفصلية إلى جانب قرار «حزب الله» الذي نال كل ما يريد، وللمفارقة هناك لأول مرة في لبنان حزب طائفي يحوز تمثيلاً وزارياً سنياً ودرزياً، وبنسبة ما مسيحياً؛ ما سيمكنه من إدارة الدفة ولعب دور المرجعية والحَكَم.
في هذا السياق بالذات، يبدو أن دور رئيس الحكومة، وبمعزل عن النتائج التي أفرزتها الانتخابات، كان هاجسه شبه الوحيد الفوز برئاسة حكومة ولو رسم «حزب الله» خطوط التأليف الكبرى، وبلور الوزير باسيل الكثير من حجم المحاصصة، وتمثل جزء من دوره في ممارسة الضغط على حلفائه فطال التحجيم حصصهم وحصته، وهنا يكمن التعديل الذي تم إدخاله على التسوية السياسية وهذا التحول كبير؛ لأن له ما بعده...
سيُقال الكثير عن ظروف التأليف، لكن حتى لا يكون هناك أي خطأ في الحساب والتقدير، ورئيس الحكومة استفاض في الحديث عن الاختناق الاقتصادي والمالي ومؤتمر «سيدر» والإصلاحات المرجوة... فحقيقة الأمر، أنه لا الأزمة الاقتصادية ولا الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، ولا الطرقات المزدحمة، ولا العجز أمام مجارٍ تفيض، ولا استمرار غياب الكهرباء وتلوث الماء والهواء، ولا الغلاء والفقر والبطالة على أهميتها وضرورة الالتفات إليها، هي العناصر التي فرضت أخيراً الإفراج عن الحكومة التي كان يمكن أن تنجز بعد أيام على التكليف. لم تشكل إلا في التوقيت الذي أرادته طهران ورأت في قيامها جزءاً من العدة لمواجهة غدرات الزمان. لقد أُعلنت الحكومة قبل أيام على مؤتمر وارسو (73 دولة) الذي سيغيب عنه لبنان، وسيناقش هذا المؤتمر قيام أوسع تحالف ضد الدور والنفوذ الإيراني في المنطقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أُطلق سراح التأليف بعد إطلاق باريس وبرلين ولندن الآلية الخاصة للتعامل المالي من قبل الشركات الصغيرة مع طهران في تحدٍ للعقوبات الأميركية، وقبل هذا وذاك لم تُعلن التشكيلة الحكومية إلا بعد ضمان أغلبية وزارية مريحة لمن يمسك بالقرار اللبناني.
الحكومة الثالثة التي يرأسها الرئيس سعد الحريري تعكس إذن خريطة القوى النيابية التي بالكاد تتجاوز شعبياً الـ40 في المائة من الناخبين الذين اقترعوا في الانتخابات الأخيرة، هي الحكومة التي سيتولى «حزب الله» تسييرها ويُخشى أن تكون أولوية اهتماماتها تتعارض مع المصالح الوطنية ومصالح المواطنين، كالمساهمة في تسخير البلد لتحقيق التفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على النظام الإيراني وأذرعته العسكرية ومن ضمنها «حزب الله». ولعل الطموح الأكبر أن تتمكن هذه الحكومة بتركيبتها الهجينة من إدارة بعض الأزمات الخانقة، وأولها وقف الانهيارات في القطاعات الاقتصادية والتجارية والمالية بعدما تجاوزت نسب البطالة ثلث اللبنانيين الذين هم في عمر الإنتاج والعطاء، فضلاً عن البطالة المقنعة، لكن الأكثرية مدركة أنها في المحصلة لا تمت بكبير صلة بحكومات اجتراح الإنجازات والحلول التي تبقى من طينة أخرى، وبأي حال منذ زمن بعيد لم يعرفها لبنان.
الأهم يبقى أن وجود حكومة في بلد يقوم نظامه السياسي على مركزية شديدة أمر بالغ الأهمية، ويقطع مع الفراغ المميت للبلد الذي بات من عادات أهل السياسة اللبنانية، والمسألة هنا تتجاوز مقولة الكحل أفضل من العمى، ودون أدنى شك فإن توزير 4 سيدات وبعضهن في وزارات أساسية: ريا الحسن في الداخلية، وندى البستاني في الطاقة، نقطة ضوء لافتة، ولن يكون مقبولاً استخدام هذه الظاهرة الإيجابية لتجميل كل الواقع الحكومي، مع الإقرار بالحقيقة أنهن لو أردن كسر المألوف في الممارسة سيواجهن الحساب من جانب الممسكين الحقيقيين بالقرار.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع