بقلم - طارق الشناوي
قبل أن تدخل دار العرض الصغيرة التى أنشأها انجمار برجمان فى الجزيرة التى أحبها (فارو) وصور فيها عددا من أهم أفلامه، بينها (بيرسونا) و(العار)، فإن عليك أن تخلع نعليك قبل أن تدلف لدار العرض، المقاعد لا تتجاوز 30، بينها فى الصف الأول مقعد فى أقصى اليمين، أمامه مائدة صغيرة، وبه مخدة، إنه مكانه الأثير، غاب عنه 11 عاما ولا يجرؤ أحد احتراما على الجلوس سوى خلفه أو بجواره، كل التفاصيل التى أحبها احتفظوا بها، على الباب تنويه بالسويدية يطلب الحذر، لا يمكن أن تدلف منه دون انحناء، كل هذه التفاصيل تدخل من باب الاحترام لصاحب المقام السينمائى الرفيع.
يعشقون هذا المخرج الذى أضاء باسمه السينما السويدية فى العالم، ومنحها حضورا، ولهذا يحتفلون بمرور 100 عام على ميلاده فى 14 يوليو 1918، وتم توجيه الدعوة عن طريق المركز السينمائى الذى يحمل اسمه فى السويد، كما أن السفارة بالقاهرة حرصت مشكورة على ترشيحى، وأشكرهم على تلك الإشادة بما أكتبه على صفحات «المصرى اليوم».. ميزانية المهرجان محدودة، ولكن الدفء الذى يحيطونك به لا يعرف الحدود، كنا نحو سبعة نقاد من دول العالم نشارك فى إحياء ذكرى فنان حفر اسمه بعلامات لا تُنسى على الشاشة، حتى إن مخرجا مثل الفرنسى (جان لوك جودار)، قال إن أفلامه كانت ملهمة لجيله لكى يفجروا فى باريس نهاية الخمسينيات ثورة (الموجة السينمائية الجديدة).
فى تلك الجزيرة أماكن التصوير التى اختارها برجمان فصارت من معالمها، ترى تلك الصخرة فتتذكر أحد مشاهد فيلمه (العار)، تستوقفك انحناءة الشاطئ فتعود بك إلى مشهد من الفيلم النفسى (بيرسونا)، حتى الأماكن التى وُضعت فيها الكاميرا يستعيدونها مجددا، وكأن الزمن توقف فقط عند برجمان.
قبل أن أصل (فارو) أستقل من القاهرة ثلاث طائرات، بدأت بـ(ميونيخ) ثم (ستوكهولم) وأخيرا (فيسبى)، وبينها قطار وبعدها عَبّارة تعقبها سيارة، رحلة منهكة استغرقت قرابة 24 ساعة، ما بين جو وبحر وبر، إلا أن الرجل يستحق.
عَشِق برجمان تلك الجزيرة فدُفن فى كنيستها طبقا لوصيته مع واحدة من زوجاته، أنجريد برجمان، وهى طبعا غير النجمة الأمريكية الشهيرة سويدية الأصل أيضا، وهكذا بدأت الاحتفالية فى الكنيسة (البروتستانتية) وقدموا عددا من الأغانى التى كان يحبها.
منح السينما السويدية خصوصية ولم تبهره هوليوود، صنع أفلاما تُبهر هوليوود، كان من عشاق شارلى شابلن، فى كل عيد ميلاد يمنح نفسه هدية، وهى مشاهدة الفيلم الصامت (السيرك)، وحتى نستعيد اللحظة أعدنا معه، أقصد فى دار العرض التى تحمل اسمه، مشاهدة الفيلم الذى أنعشنا مجددا.
أخرج للسينما 50 فيلما، وكان يعتبرها عشيقته، بينما المسرح الذى شهد انطلاقه فهو زوجته التى يعود إليها بعد كل غزوة سينمائية، أفلامه غلب عليها الأبيض والأسود، وبلاغة التعبير بالإضاءة، ومنح ممثليه أفضل أدوارهم، فكان يعتصر بزاوية وحجم اللقطة تعبيرات ممثليه فتفيض على الشاشة.
من أهم معالم الرحلة زيارة لمنزل برجمان، فلقد كان مثل الأطفال يكتب على الأبواب والحوائط أحيانا بعض لمحات عن أفلامه بتعبيرات يغلب عليها روح الأطفال، وفى الحمام كتب ساخرا (إلى الجحيم).
وتذكرت أم كلثوم التى باع الورثة فيلتها، ومنزل عبدالوهاب فى الزمالك، ونجيب محفوظ فى العجوزة، وصلاح أبوسيف فى عابدين، ومكتب يوسف شاهين فى شامبليون وغيرها، وماذا فعلنا بها..غدا نُكمل الرحلة من (فارو).
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع