توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

وداعاً همنغواي العرب

  مصر اليوم -

وداعاً همنغواي العرب

بقلم - سوسن الأبطح

ليست مفاجأة أن يرحل حنا مينة. فالرجل بلغ الرابعة والتسعين، وخبر موته أشيع أكثر من مرة وتم تكذيبه، كما كتب وصيته، منذ سنوات، ونشرها على الملأ، وكأنه يجهز نفسه للرحيل. ربما لأننا نحن الذين بحاجة إلى ذاك الجيل الذي تطوى صفحته، بأسف شديد، وحزن غامر، وكأن التعويض يكاد يكون مستحيلاً، في زمن كثرت فيه الروايات حدّ الفوضى، وندر وجود الروائيين.

هل ثمة حقاً من لم يقرأ كتاباً لحنا مينة؟ هل هناك من لم يقضِ ليلة واحدة بيضاء لأنه أراد أن يعرف ماذا سيحل بالمناضل فياض أو الطروسي بطل «الشراع والعاصفة» أو زكريا المرسلي في «الياطر» الذي نصفه وحش ونصفه الآخر إنسان؟ هل يمكن أن يكون قارئ عربي قد فوت على نفسه المرور بهذه التجربة الفريدة لأحد كتابنا الاستثنائيين الذين لم يتخرجوا من مدرسة أو جامعة، وإنما من رصيف ومقهى وميناء؟ شيء ما في سيرة مينة تَمُتَّ بصلة قرابة لهامشية محمد شكري وفقره المدقع وكفاحه الذي لم يتوقف. هو أيضاً شبيه محمود درويش في التوصية بعدم كتابة المراثي وإقامة المآتم والطقوسيات الاجتماعية لوداعه. هو رفيق محمد الماغوط الحميم وأقرب الناس إليه وبقي إلى جانبه حتى دخوله الأخير إلى المستشفى، رغم الاختلاف الأدبي في النوع والأسلوب. هو كما غالبية ذاك الجيل الذي رأى في الأدب نوعاً من النضال من أجل قول الحياة أكثر صدقاً مما يعيشها، وشفافية مما يشعرها. هذا الصنف المؤسس بات آيلاً إلى الانقراض، إن في وطنيته أو قوميته، أو إيمانه بأن التجربة تصنع الكتاب، والكدح ينحت شخصيات الرواية، والمثابرة هي وحدها التي تكتب الخطى صوب النجاح.

اتب بقي يردد أنه أصبح أديباً بالصدفة بعد أربعين كتاباً منشوراً وما يماثلها ممزقاً أو مهملاً لأنه فاشل في عينيه. وحين سئل أي كتبه أعز إليه قال: «لم أرض في حياتي عن أي شيء كتبته على الإطلاق. ولو كنت رضيت مرة واحدة لانتهيت». بقدر ما أحب سوريا ناضل في سبيلها من زمن الانتداب وبعده. سُجن تسع مرات، ونفي ثلاثاً حتى وصل مشرداً إلى الصين. عاش فقراً أسود مدقعاً، عمل في كل مهنة استطاعها من الحلاقة إلى العتالة، صبياً في المرفأ وعلى المراكب والبواخر، وصولاً إلى الصحف. حاول كتابة مسرحية في البدء ولم تعجبه فنسيها. ألف القصص ولم يجرؤ على كتابة رواية إلا متأخراً، فكانت «المصابيح الزرق» التي لقيت يومها نجاحاً شجعه ليكمل الطريق، التي يقول إنها بقيت شاقة، وكل ما كان يبحث عنه هو الخبز والكفاية. رفض عروضاً سخية للعمل خارج سوريا، لم يكن يبحث عن المال الكثير أبداً، ولم تخدعه الشهرة، وبقي مثابراً، متواضعاً، إلا في القول إن ثمة من نافسه على الكتابة عن البحر بالأدب العربي.

هنا يبدو مينة صارماً، فهو متأكد أن أحداً في القديم، لا شعراً ولا نثراً، لم يكتب عن البحر وناسه وأجوائه، وعواصفه، وجنونه كما فعل هو، وأن الأدب العربي الحديث بقي خلواً من هذا العالم الذي لا يشبه غيره. كتب عن «نساء المرافئ» وخمارات الموانئ، وعن اللجج والصيادين، وموبقات حياة البحر، ورذائله، كما غرائبه ومصادفاته العجائبية، والموت الذي شاهده تكراراً بأم عينيه. رغم ذلك يعتبر مينة أنه لم يسجل سوى مقدمة من أدب يستحق أن يروى ويكتب، موصياً الأجيال المقبلة أن تتابع المهمة. هو بالفعل «أديب البحر» لكثرة ما كتب عن الأزرق وعوالمه الضاجة بالصخب والمجون، وهو همنغواي العرب، وبقي متفرداً في مجاله، إلا أنه لم يكن يحب كثيراً التسميات والتشبيهات، ولا القول إنه ينتمي إلى مدرسة «الاشتراكية الواقعية». وهو محق.

يساري بالقوة لأنه ولد محروماً بائساً، وبقيت حياته، في كل مراحلها، بحثاً عن تحقيق عدالة لم تعط له. وكل كائن ساع بطبعه للترقي والخروج من قوقعة ظالمة لا يريد أن يسجن فيها. لذلك هو الخجول بطبعه، يردد أن الحظ حالفه، ولا يعرف ما الذي ساقه لأن يصبح مشهوراً ومقروءاً. لله درك يا حنا! لقد قرأت حتى كدت تفقد بصرك، ومع ذلك تقول إنك نلت ما لا تستحق. عشت كل لحظة على اليابسة كما في الماء وأنت تتنفسها، وتعتبر حبنا لكتاباتك مجرد صدفة؟ يا لهؤلاء الكبار حين ينكرون ذواتهم، في زمن الانتفاخات الاصطناعية، والنجوميات «الفيسبوكية»! هو يعرف في قرارة نفسه ذلك، لذلك يقول بأنه جيله كان «في الأدب أرسخ»، والكتابة تطيعهم وتلين لهم. أنكر دائماً أن تكون أي من رواياته الكثيرة سيرة ذاتية أو ما أشبه، لأنه لم يفعل سوى أن يكتب ذاته، بالتالي فشخصياته هي مرآته وفي الوقت نفسه مختلفة عنه. لذلك كان يعاود قراءة نصوصه ليتعلم من أبطاله، شيئاً من قدرتهم على الصبر والمواجهة والتحدي.

ذهب «الرجل الشجاع» تاركاً لنا مئات الشخصيات، وعشرات الكتب، وسيرة تستحق إعادة التشريح والكتابة وتسليط الضوء على مكامن القوة والجبروت فيها، وحباً للعالم ليس فيه حقد المحروم، ولا ثأر الفقير من الغني. بالعكس كان حنا مينة شغوفاً بالأرض والوطن والصدق والحرية، وقال في أيامه الأخيرة، وهو يقيم وحيداً مع مرافقه في بيته، إنه يعيش بغزارة، لأن كلمة واحدة من محبيه الذين يسألون عنه تساوي كل ما كتبه من أدب. الرحمة لحنا مينة ولجيل علمنا «الإنسانية» دون أن يدّعي بطولات، أو يطلق شعارات، ويفصّل نظريات وتحليلات.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 01:13 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

التوافق ينتصر للسودان .. والمعركة مستمرة

GMT 01:12 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

مصر الفيدرالية

GMT 01:06 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

فاتورة الحرب.. مدفوعة مقدمًا!

GMT 05:30 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

مشاكل ترامب أمام القضاء الأميركي

GMT 05:29 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

من مفكرة الأسبوع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وداعاً همنغواي العرب وداعاً همنغواي العرب



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية

GMT 12:20 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

طلائع الجيش يبحث عن مهاجم سوبر فى دوري المظاليم

GMT 15:09 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

فان ديك يحصد لقب أفضل لاعب بنهائي دوري الأبطال

GMT 15:15 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مشروع "كلمة" للترجمة يصدر "كوكب في حصاة"

GMT 20:20 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

صدور رواية "الطفلة سوريا" لعز الدين الدوماني
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon