لا حديث في تونس خلال هذه الأيام إلا عن خطاب رئيس الدولة السيد الباجي قائد السبسي الذي أعلن فيه نهاية التوافق مع حركة «النهضة»، مبرزاً أن هذه القطيعة بطلب من «النهضة» نفسها.
وللعلم، فإن كلمة «التوافق» هيمنت على امتداد السنوات الخمس الأخيرة على المشهد السياسي التونسي، ولاقت من المواقف المختلفة والمعارضة لها الكثير، وذلك من المنتمين للحركتين سواء «نداء تونس» أو «النهضة». وهو ما يعني أن زواج الحركتين سياسياً لم يكن دون مشكلات ونقد ورفض خلافاً للطلاق بينهما الذي تم التفاعل معه بالصمت عند البعض، وبالترحيب البارد لدى الآخرين الذين يرون أنه ما كان يجب أن يحدث التوافق أصلاً.
طبعاً، السبب المباشر لحالة العطب التي أصابت سياسة التوافق بين الحركتين الحاكمتين في تونس اليوم، يعود إلى اختلاف الموقف من رئيس الحكومة الراهن السيد يوسف الشاهد، لكن لا نعتقد أن السبب المباشر وحده كفيل بتفسير العطب وفهمه.
فالتوافق الذي اعتمدته الحركتان كان من البداية هشاً ومحل انتقاد، ومما زاد في هشاشته أنه لم يتعدَ البعد السياسي. زيادة أن المشكلات الاقتصادية التي عرفتها البلاد أفقدت سياسة التوافق نجاعتها وجدواها من الناحية البراغماتية.
من المهم أمام قرار نهاية التوافق أن نستحضر مجموعة من العناصر، لعل أولها يتصل بما قبل انتخابات 2014، عندما كان التوتر بين الحركتين في أوجّه. بل إن «حركة نداء تونس» بنت مضمون مشروعيتها الحزبية بمعارضة «النهضة» وقطع الطريق سياسياً عليها؛ الأمر الذي جعل «حركة نداء تونس» تولد كبيرة والتف حولها الكثير من التونسيين، وراهنوا على كونها الكفة الحداثية التي ستلجم جماح الإسلام السياسي التونسي، وتحديداً «حركة النهضة» الأكثر تنظيماً وقواعد شعبية.
كما يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن «حركة نداء تونس» كانت مهدّدة بقانون العزل السياسي الذي تراجعت عن التصويت لفائدته كتلة «النهضة» ذات الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي آنذاك.
هناك من يؤرخ للتوافق بين حركتي «النهضة» و«النداء» بما سمي لقاء باريس في أغسطس (آب) 2013. لكن عملياً، يمكن القول إن نتائج انتخابات 2014 هي التي أملت الشرط الواقعي لعلاقة التوافق، وجعلت منه ضرورة كي يتم الانشغال بتسيير الدولة وحل المشكلات بدلاً عن مواصلة التجاذب الآيديولوجي بما يعنيه ذلك من تشويش. ولمّا كانت كتلتا حركتي «النهضة» و«النداء» مسيطرتين على البرلمان ومقاعده، فإن التوافق استمر بما وفره من تنسيق في المصادقة على مشاريع القوانين داخل البرلمان، وبما مثّله من تقوية متبادلة لهما أمام المعارضة.
السؤال الآن: ماذا يعني سياسياً إعلان نهاية التوافق بين الحزبين، وأيهما أكثر تأثراً بتداعياته إذا كانت له تداعيات؟
المثير للانتباه، أنه رغم أن الرئيس السبسي أشار بكل وضوح إلى أن «حركة النهضة» هي من طلبت إنهاء التوافق، فإننا نلاحظ أن رد فعل «حركة النهضة» في البيان الذي أصدرته يرمي مسؤولية إنهاء التوافق في شباك رئيس الدولة، حيث تمت الإشادة بخيار التوافق، وكيف أنه يعود له الفضل في نسج الاستثناء التونسي، وأنه الأرضية المثلى لاستقرار البلاد وإدارة الاختلاف. طبعاً في البيان نفسه هناك ما يشير صراحة إلى وجود اختلاف في وجهات النظر حول عدد من القضايا، وذلك دون تحديد لهذه القضايا.
وكما نلاحظ، فإن الحركة لم تصعّد اللهجة وحرصت على تسويق صورة الطرف المتمسك بالتوافق، وهي رسالة إلى الخارج قبل الداخل، في حين أن إشارتها إلى اختلاف وجهات النظر حول بعض القضايا هي رسالة مصالحة لقواعدها الرافضة لمسار التوافق مع «حركة النداء»، وإقرارها تغليب السياسي على الدعوي، وصمتها وحيادها إزاء مشاريع قوانين، مثل مشروع قانون المساواة بين الجنسين في الميراث.
هناك نقطة أخرى مهمة، وهي أن توقيت الإعلان عن التخلي عن سياسة التوافق في هذه اللحظة بالذات التي تعرف فيها تونس كوارث طبيعية (فيضانات) ومشكلات اقتصادية عدة، إضافة إلى أنها مقبلة بعد عام على انتخابات تشريعية ورئاسية ثانية في مرحلة ما بعد الثورة... كل هذا خلق نوعاً من الإرباك لوضع يعاني أصلاً من إرباك وتصدعات.
كما أنه من الواضح أن العلاقة بين الحركتين الرئيسيتين في الحقل السياسي التونسي قد عادت إلى ما قبل صائفة 2013، وهو ما يفيد بأن الحملات الانتخابية للعام القادم ستكون صراعية آيديولوجية كما كانت، وسيتم إهمال ما تم إهماله في السابق في خصوص الرهان على البرامج الاقتصادية وإيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية.
طبعاً الصراع الآيديولوجي لم يتوقف لحظة بين النخب في تونس، ولا شيء يوحي بمؤشرات الانتصار لتوقعات التونسيين الاقتصادية، لكن الهدنة التي عرفها الصراع الآيديولوجي سياسياً باتت مهددة بالهتك.
وإذا كان من الصعب تحديد التداعيات من جراء عدم التوافق، فإن النقطة الغائبة عن «حركة نداء تونس» التي عرفت ضعفاً متتالياً، أنها خسرت ثقة ناخبيها، ولا نعلم إلى أي حد يمكن استرجاع الثقة فيها دون أن ننسى أنه لولا الانشقاقات والاستقالات التي باتت تميز «حركة نداء تونس» لما قامت «حركة النهضة» باستسهال أمر إنهاء التوافق.
فهل هو طلاق ظرفي يهدف به رئيس الدولة إلى الضغط العالي الصوت على «حركة النهضة»، أم أن تونس مقبلة على إعادة ترتيب للتحالفات السياسية الحزبية؟
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع