بقلم: عبد الرحمن شلقم
الثورة، كلمة صُبَّ في حروفها القليلة الكثير من الأقوال منذ طفحت على مسرب الحياة في الكثير من بلدان العالم، وبخاصة في أوروبا. في البلاد العربية ترعرع اسم الكلمة مع قفزات الانقلابات العسكرية. في البداية لم يتردد الكتّاب والصحافيون عن إطلاق كلمات مختلفة على الحركات العسكرية التي تحمل ثلة من الضباط إلى الحكم. في اللغة الفارسية تستخدم كلمة انقلاب بمعنى الثورة. وفي بعض الحالات تم استخدام كلمات مثل حركة التصحيح أو الإنقاذ وغيرهما. كلمة انقلاب أخذت معنى تآمرياً مضاداً للشرعية، ولهذا دأب العسكريون على إعطاء عنوان لحركاتهم وهو الثورة. في الكثير من الحركات العسكرية في البلاد العربية تم وضع وصفة - روشتة - تضمن وضع لحاف الثورة على الانقلاب الذي ينفذه عسكريون على السلطة القائمة والاستيلاء على كرسي الحكم عنوة وبقوة السلاح. مضمون تلك الوصفة مجموعة من الشعارات أو السياسات تتمثل في، الوحدة العربية، دعم القضية الفلسطينية، معاداة الإمبريالية، الاشتراكية، التقارب مع الاتحاد السوفياتي والتصنيع الثقيل.
تعلن الحركات العسكرية عن نفسها عبر ما عرف بالبيان الأول الذي ينطلق في الصباح الباكر من الإذاعة الوطنية الرسمية، وتنهال بعدها أصوات التأييد للحركة. يتضمن البيان الأول للحركة كلمات صارت نمطية تتحدث عن فساد النظام المطاح به وأهداف القادمين الجدد لتحقيق رغبات الشعب في العدل والتقدم وإزالة المظالم وتحرير فلسطين... إلخ. تختلف الدوافع والأهداف من حركة إلى أخرى ونجاحاتها وإخفاقاتها، وكذلك مآلات تلك الحركات العسكرية وما انتهت إليه من صراع بين قياداتها والتي لم يغب الدم عن الكثير منها، لكن عنوانها بقي دائماً هو، الثورة.
سؤال «الثورة» دوافعها ومحركاتها ولنقل، تشريح كيانها في البلاد العربية، شابه الكثير من الخلل وغابت عنه في حالات كثيرة المعايير العلمية الموضوعية لأسباب عدّة، من أهمها الاصطفاف الآيديولوجي والسياسي وغياب المعايير العلمية وعمق الدراسة الأكاديمية وحتى الفكرية العميقة. ما شهدته بعض البلدان العربية في بداية العقد الثاني من هذا القرن وأطلق عليه أكثر من عنوان، الربيع العربي، ثورة شعبية، تمرد، مؤامرة، فتنة، صراع على السلطة وغيرها، لم يحظ بدراسة علمية تشريحية تغوص في أعماق الحدث، بل كانت المعالجات أقرب إلى الانطباعية والصحافية ذات الألوان السياسية والمصلحية.
أستاذان أكاديميان ليبيان هما الدكتور مالك عبيد أبو شهيوة والدكتور محمود محمد خلف قاما بترجمة كتاب عنوانه - ثورات أواخر القرن العشرين - ساهم في تأليفه كوكبة من أساتذة علم الاجتماع والسياسة. نشرت الترجمة في طبعتها الأولى سنة 2003، أي قبل ما شهدته بعض البلدان العربية من حراك بسبع سنوات تقريباً. قال المترجمان في مقدمتهما للمجلد: إن فكرة نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية نبعت أساساً من دراسة تحليلية ونظرية قمنا بها حول «الثورة في النظرية السياسية: نحو دراسة علمية للثورة». مضمون الكتاب كان فحص عشر حركات ثورية مؤيدة شعبياً في الثلث الأخير من القرن العشرين، سبع منها أسقطت النظم القديمة وكان لها تأثير على السياسات الإقليمية والدولية. المفارقة كأن هذا الكتاب تم تأليفه بالأمس القريب حول ما يحدث بين ظهرانينا. المحررون للكتاب قاموا بتحليل، بل تشريح عشر ثورات شهدها العالم أواخر القرن العشرين في بلدان مختلفة من العالم، وهي: فيتنام، نيكاراغوا، إيران، بولندا، أفغانستان، الفلبين، كمبوديا، زيمبابوي، جنوب أفريقيا، وأضاف المؤلفون فصلاً عن الانتفاضة الفلسطينية في سنة 1987. غاية المؤلفين الوصول إلى عصارة علمية موضوعية تستخرج من تلك الثورات التي شهدتها بلدان متباعدة جغرافياً ومتنوعة ومختلفة عرقياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً وفكرياً، تستخرج إطاراً نظرياً علمياً للثورة من كل جوانبها، ونستطيع القول إن المترجَمين في المقدمة للكتاب أضافا له عمقاً وبعداً بالمساهمة في إلقاء ضوء على الدلالات والمفاهيم التي تحكم مسار الدراسة الواسعة؛ إذ فسحا مساحة واسعة في المقدمة لمعالجات قدمها دارسون لمفاهيم الثورات والانقلابات ومحركاتها. قد يكون ما جاء في تفريق العالِم جيدنيز بين الانقلاب العسكري والثورة ما يلقي ضوءاً على ما شهدته بعض البلدان في سنوات خلت. يورد الدكتور محمود خلف اقتباساً من جيدنيز: «الثورة تكتسب معنى سوسيولوجياً ولا تقتصر على تغيير القيادة السياسية». ويرى أن «الثورة لا بد أن تتضمن تعبئة جماعية شاملة، وأن تقود إلى عمليات من الإصلاحات الكبرى والتغييرات».
لقد شهد العالم ما بين 1961 إلى 1965 (48) من الحروب الأهلية والثورات، 9 منها فقط انتهت بالانتصار أو بتنازلات كبرى قدمها الثوار مقارنة بـ35 هزيمة عسكرية وعدد من الصراعات ما زالت مستمرة. وفي كل حلقة من حلقات التغيير السياسي بفعل الثورات تولد استحقاقات جديدة في مسارات اقتصادية وسياسية واجتماعية عدة، وهنا تبدأ معايير الحكم على نتاج ما حققه التغيير وهل فعلاً أنجز ما قامت الثورات من أجله. بالطبع هناك صعوبات جمة تواجه البلاد بعد نجاح حركة التغيير، فموازين ورموز القوة الجديدة تحكمها محركات وأفكار متعددة. يقول جاك غولدستون في الفصل الثالث من الكتاب ص 143 «الثورة إطاحة قسرية بالحكومة يتبعها تعزيز السلطة بجماعة جديدة تحكم من خلال مؤسسات سياسية وبعض الأحيان اجتماعية في عملية معقدة. ومع أن سقوط الحكومة ربما يكون فجأة، فالأسباب التي قادت إلى سقوطها تأتي نتيجةً للصراع على السلطة بين المكافحين والذين في السلطة، وإعادة بناء دولة مستقرة غالباً ما يحتاج إلى عقود من الزمن». يضيف غولدستون نبوءة أخرى إلى ما بعد الإطاحة بالسلطة وأخذ مجموعة جديدة لها: «عندما يكون الراديكاليون قادرين على التمكن من هذه الأرضية الآيديولوجية، من المحتمل أن ينبثقوا كقوى مهيمنة في النظام التالي أو النظام الذي يلي ذلك، وهذه الملاحظة تقترح استراتيجية للجماعات المعتدلة الباحثة عن الحياة في صراعات ما بعد الثورة. لذلك؛ هذا النموذج للصراع الثوري له القدرة على التنبؤ والتطبيق على مستوى القيادة العامة».
الدراسة الموضوعية العلمية لما حدث في عدد من البلدان العربية من انتفاضات سيأخذ الكثير من الوقت كي يدخل معمل الدراسة العلمية الموضوعية والتاريخية العميقة، لماذا؟ يقول الدكتور محمد خلف في الفصل الأول بعنوان (الثورة في النظرية السياسية، نحو دراسة علمية للثورة): «المؤرخ يكون أمامه فرصة في الوصول، بعد سنوات كثيرة إلى التقارير والوثائق والدراسات التي أعدها آخرون من المراقبين والباحثين المتدربين والمتخصصين والدبلوماسيين المحترفين. الشريحة الأخيرة بما أن وظيفتها تتمثل في جانب منها في نقل تقارير سرية لحكوماتهم، فهي في غاية الأهمية في المساعدة على تكوين الصورة المتكاملة عن الأحداث والأسباب».
إن الزمن عامل أساسي يشارك في الحفر العلمي لجيولوجيا مسار الأحداث وجذورها الاجتماعية والسياسية وحتى النفسية. لا شيء يولد من العدم، لكن الوجود الذي هو رحم الأحداث يكمن في إزالة الكثير من الغبار عن ركام ما حدث. سأل أحدهم الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عن رأيه في الثورة الفرنسية. ردَّ الزعيم بسؤال: متى حدثت هذه الثورة؟ أجابه السائل المسؤول: منذ مائتي سنة تقريباً. رد ماو تسي تونغ: من المبكر الحكم عليها.