بقلم : عبد الرحمن شلقم
الأحداث تتدافع على اتساع مساحة العالم، لكن في المنطقة العربية للأحداث نوعها وسرعتها بل وطبيعتها الخاصة. التعميم عندما تتم متابعة الأحداث في منطقتنا سمة لا تزول. نلقي نفس الغطاء الإخباري أو التحليلي على كل ما يجري في العالم العربي، وفي ذلك مغالطة تربك صور الكثير من الأحداث وأبعادها وارتداداتها.
لكل بلاد عربية خصوصيتها الذاتية، من حيث التكوين الثقافي والتاريخي والاجتماعي والقدرات المالية وحقائق الموقع الجغرافي التي لا يغيب فعلها في عامة أوجه الحياة.
منذ عقود مرّ أغلب البلدان العربية بأحداث داخلية وتحديات خارجية متفاوتة في الحجم والثأثير على مسارات الحياة في كل بلد. التعميم يغالط ويرشّ رماداً ثقيلاً على الحقائق. المملكة المغربية مثلاً لها تكوينها الاجتماعي والثقافي والعرقي الذي تراكم عبر قرون امتدت من اتحادها مع الأندلس في مراحل مختلفة، والمدارس الفقهية والفلسفية والصوفية وكذلك نظام الحكم فيها. جغرافياً هي أقرب إلى أوروبا حيث لا يفصلها عن إسبانيا سوى كيلومترات محدودة، بالإضافة إلى نوعية الاستعمار الذي عاشته وكذلك حقب المقاومة الطويلة ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي. امتداد المغرب الثقافي والروحي في غرب أفريقيا حيث ما زال الكثيرون يرتبطون بوشائج القربى والتواصل الثقافي والصوفي مع المغرب. الحكم في المملكة المغربية اليوم له طابعه الخاص، فالملك هو رأس (المخزن) كما يقول الإخوة المغاربة، فوق كل الأطراف لا ينحاز إلى أي حزب سياسي، ومَن ينتخبه الناس يتولى إدارة الدولة. أما إذا تحدثنا عن الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي تقع في أقصى الغرب العربي فهي تكوين فريد في كل شيء. التاريخ كائن حي، يفعل يومياً في كل مفاصل الحياة. التكوين البدوي هوية يتشبث بها الجميع حتى أولئك الذين يعيشون في المدن الموريتانية، الإسلام ليس مجرد اسم يضاف إلى عنوان الدولة بل مرجعية أساسية وكذلك الشِّعر الذي تتوارثه الأجيال باللهجة الحسانية. منذ استقلال البلاد كان كرسي الرئاسة في يد العسكريين منذ رحيل الرئيس الأول مختار ولد دادة.
التداخل مع إقليم أفريقيا الغربية كان له ثمن يؤخد ويُدفع خصوصاً أن موضوع الرِّقّ لا يزال ملفاً ضاغطاً على مسيرة التحديث في البلاد. هذا البلد البعيد جغرافياً عن الجسد العربي يمتلك ثروات هائلة من المخزون السمكي في المحيط الأطلسي، والمناجم والاستكشافات الواعدة في مجال النفط لا تزال تعاني من ضائقة اقتصادية كبيرة.
أما الجزائر فهي قارة في بلاد، تاريخ ساخن لا تبرده السنون ونسيج اجتماعي متنوع من عرب وقبائل وطوارق وغيرهم. لم تكن البلاد ولاية هادئة في العهد العثماني، تمددت حدودها وتراجعت، وفي كل الحقب كان الإسلام قوة توحيد لكل أبناء الوطن على اختلاف مكوناتهم ومشاربهم. الحلقة الأكبر والأقوى التي شكلت الشخصية الجزائرية كانت مرحلة الاستعمار الفرنسي حيث حاول المستعمر تغيير هوية البلاد. نشر اللغة الفرنسية منذ السنوات الأولى من سيطرته، وألحق الجزائر بصورة كاملة ورسمياً بفرنسا وجلب ملايين المستوطنين الفرنسيين ومكّنهم من الأراضي الخصبة. كانت المقاومة منذ بداية سنوات الاستعمار ثقافية من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية. قاد العلماء الدينيون حملات عاتية ضد حملات الفرنسة ودفع الكثير منهم حياته من أجل ذلك. هذه المقاومة بسلاح الهوية الإسلامية هي التي عبّدت الطريق لمعركة الجهاد المسلح من أجل الاستقلال. بعد قيام الحكومة الوطنية الجزائرية انتهجت البلاد المسار الاشتراكي وكان لذلك تأثير واسع على النشاط الاقتصادي في البلاد التي تمتلك ثروات هائلة وعلى رأسها الغاز والنفط. بعد رحيل الرئيس هواري بومدين دخلت البلاد مرحلة من عدم الاستقرار السياسي قاد إلى ما عُرف بـ«العشرية السوداء»، حيث قتل التطرف قرابة ربع مليون مواطن وعانت البلاد من أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة. لقد تركت تلك الحقبة ندوباً غائرة في الحياة والعقول والضمائر.
ونحن نقرأ خرائط اتحاد المغرب العربي نقف في محطة نوعية وهي الجمهورية التونسية التي تمتاز بتكوين تاريخي وثقافي واجتماعي خاص له بُعد تاريخي كان الحادي في مسيرة الحياة عبر قرون. تونس التي مثّلت القوة المتوسطية الضاربة في عهد قرطاجنة وواجهت الإمبراطورية الرومانية كانت جذورها فينيقية امتدت من الشام إلى شمال أفريقيا. بعد هزيمة قرطاجنة أمام روما، هيمنت روما على ما سمته «بحرنا» أي كل البحر الأبيض المتوسط. بعد الفتح الإسلامي تحولت تونس إلى مركز إشعاع فكري وفقهي بل وقوة عسكرية ضاربة حكمت بعضاً من جزر وبلدان البحر الأبيض المتوسط في عهد بني الأغلب والفاطميين.
في سنة 1705 صعد إلى الحكم علي بن الحسين تحت مظلة الدولة العثمانية واستمرت عائلته في الحكم إلى ما بعد استقلال تونس عن فرنسا حيث أنهى حكم البايات وإعلان الجمهورية. أسست الأسرة الحسينية أعمدة الدولة الحديثة وأصدرت عهد الأمان الذي هو بمثابة دستور للدولة، وقامت بخطوات جريئة في مجال الإصلاحات الاجتماعية، وفي السنوات التالية شهدت البلاد فعاليات فكرية متنوعة تنويرية، من خير الدين التونسي وأبو ضياف إلى الطاهر حداد. المميز في تاريخ تونس أنها لم تلحق بفرنسا ولم تُلغِ الدولة، بل كان الوجود الفرنسي بناءً على معاهدة «باردو» التي أخضعت البلاد للوصاية فقط. بعد الاستقلال قاد الرئيس الحبيب بورقيبة بعقل مختلف عن التيارات الآيديولوجية التي عَبَرت الشرق العربي وقاد مسيرة تحديث اجتماعي وثقافي واسعة عبر واقعية سياسية وطنية وبعلاقات متوازنة مع أطراف الحرب الباردة لها خصوصية مع الكتلة الغربية. وانتهى به المطاف إلى العزل على يد رئيس وزرائه زين العابدين بن علي.
ليبيا كان لها مسار سياسي مختلف عن شريكاتها المغاربيات التي وقعت تحت استعمار واحد هو الفرنسي. وقبل ذلك بقيت لقرون تحت سلطة عثمانية مباشرة غاشمة باستثناء المرحلة القره مانلية.
الاستعمار الإيطالي الفاشي ألحق ليبيا بإيطاليا، ومنع التعليم وشن حرب إبادة وفتح معتقلات جماعية. لم تشهد ليبيا عبر تاريخها أي نشاط سياسي نقابي أو حزبي في جميع العصور، بما فيها المرحلة الملكية والجماهيرية. في حين شهد العديد من الدول العربية والأفريقية حياة حزبية ولو عبر الحزب الواحد الحاكم. ورغم انحدار الملك إدريس من أسرة جزائرية فإن توجهاته كانت مشرقية خصوصاً مع مصر. بعد إزالة الملكية وتولي العقيد معمر القذافي رفع شعار الوحدة العربية وخاض محاولات عديدة لم يُكتب لها النجاح. أصدر الكتاب الأخضر الذي عنونه بالنظرية العالمية الثالثة. ودخلت ليبيا في حروب قريبة وبعيدة. وتبنت منهجاً اشتراكياً. ثم توجه نحو القارة الأفريقية مغادراً المشروعات الوحدوية العربية. كان للثروة الكبيرة التي أغدقها النفط الأثر الكبير في الحياة والسياسة.
في ظل كل هذه الاختلافات بين الدول المغاربية وقعت معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي التي تضمنت العمل على تحقيق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال بينها. وكذلك تحقيق التنمية الصناعية والزراعية والتجارية والاجتماعية للدول الأعضاء. وتضمنت المعاهدة إنشاء أجسام إدارية تنفيذية وتشريعية وقضائية للاتحاد. تم توقيع المعاهدة في مراكش سنة 1989. ماذا كانت النتيجة؟ بعد ثلاثين عاماً من الإعلان عن قيام الاتحاد أُصيبت العلاقات بين دول الاتحاد بتصلب الأطراف وغطاه السكوت في خضم تطورات عنيفة هزّت بعض دوله. لماذا فشل الاتحاد منذ البداية؟ الأنظمة مختلفة في تكوينها وأسلوب حكمها وطبيعة قادتها وخلفيتهم وأفكارهم. تاريخ كل شعب ومزاجه. انعدام الثقة بين الأنظمة مع اختلاف علاقاتها الدولية ومصالحها الثنائية. لقد أصبح الاتحاد المغاربي كياناً صامتاً مسكوتاً عنه، غاب في طوفان الأحداث التي لا تقاومها العناوين.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع