بقلم-نبيل عمرو
للمرة المائة يعلن الرئيس محمود عباس، إما مباشرة وإما على لسان الناطقين باسمه، أنه جاهز للقاء بنيامين نتنياهو في موسكو، تلبية لدعوة قديمة إلا أنها لا تزال قائمة، من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
إعلان عباس هذا يبدو بالشكل والمضمون متعارضاً مع إحجامه العنيد عن لقاء الرئيس الأميركي ترمب، ومن يمثله من رجال إدارته، وأبرزهم في هذه المرحلة كوشنر وغرينبلات.
ومن يدقق في طبيعة العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية التي بُنيت على اتفاقات وتفاهمات «أوسلو»، يدرك استحالة القطيعة مع إسرائيل، فإذا كان الشق السياسي والتفاوضي قد تعطل أو أغلق، فإن ما هو موازٍ له في الأهمية ظل قائماً ومستمراً، وأعني به العلاقة الأمنية والاقتصادية والتسهيلات.
ومنذ «أوسلو» وحتى أيامنا هذه، تشعبت هذه العلاقات وتجذرت حتى صار الانفكاك منها مستحيلاً، رغم طرح «الانفكاك» كشعار شعبوي تنادي به الطبقة السياسية الفلسطينية، والمجالس والإطارات والمؤتمرات، تماماً مثل شعبوية وقف التنسيق الأمني، وغيره من الشعارات التي إنْ حاول الفلسطينيون تطبيقها بالفعل فإن ذلك سيؤدي تلقائياً إلى التعرض لعقوبات إسرائيلية فظة، تضر كثيراً بالمصالح اليومية للفلسطينيين. ذلك ليس بفعل نصوص الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تشكل بمجموعها إرث «أوسلو» ومرتكزات الاستمرار فيه، وإنما بحكم الأمر الواقع الذي كرّسه الإسرائيليون على الأرض، وأساسه تعزيز السيطرة على الفلسطينيين في كل المجالات، وفي مقدمتها المجال الاقتصادي.
الأمر هنا لا يتصل فقط باتفاق باريس الذي فطن صناع «أوسلو» إلى أنه كان الإطار الفعال لسيطرة إسرائيلية اقتصادية شبه مطلقة؛ بل لسببين إضافيين أكثر أهمية وفاعلية من هذا الاتفاق؛ الأول تحول العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية من واقع ومناخ البحث المشترك عن اتفاق سياسي نهائي، إلى واقع مناقض تماماً، قوامه الصراع التفصيلي والشامل الذي سمحت إسرائيل لنفسها من خلاله بإعادة احتلال الضفة عملياً، دون الإعلان عن ذلك. وتحول كهذا لا بد أن يضرب، وفي الجذور، أي إمكانية لعلاقة اقتصادية معقولة بين الجانبين المتصارعين.
والثاني إحجام القوى الدولية التي دعمت عملية السلام في البدايات، وحمت إلى حد ما الطرف الفلسطيني الأضعف، عن ممارسة أي ضغط على إسرائيل لوقف أو حتى التخفيف من سياساتها المضرة عنوة بالمصالح الفلسطينية؛ بل على العكس من ذلك، فقد تهيأ لإسرائيل دعم دولي لم تكن لتحلم به في السابق، وأبرز عناوينه الراهنة الدعم الروسي والأميركي، مع تسجيل الفارق في المستوى والدوافع والعمق بين الاثنين.
إن استعداد الرئيس عباس للقاء نتنياهو، في رحاب صديق مشترك للجانبين، يبدو ضرورياً بفعل ضغط الحالة الفلسطينية المنهكة في مرحلة التحضير لـ«صفقة القرن»، غير أن محمود عباس صاحب التجربة التفاوضية التفصيلية مع إسرائيل، يدرك أكثر من غيره استحالة تحقيق أي تقدم سياسي من خلال اللقاء المحتمل، ذلك بفعل الحالة التي يعيشها الآن بنيامين نتنياهو المزهو بنصره المؤزر في الانتخابات الأخيرة؛ حيث إنه ينسب هذا الانتصار إلى وعوده المبالغ فيها بإلحاق أفدح الضرر بالفلسطينيين؛ خصوصاً في الضفة، بما في ذلك تهيئته النفسية والإعلامية لضم مناطق من الضفة أسوة بالجولان، التي اعتبر ضمها قد تكرس نهائياً من خلال الاعتراف الأميركي به.
دعونا نفترض أن مرونة مستجدة هبطت على نتنياهو، ووافق على لقاء الرئيس عباس، مع أنه لا يزال يتدلل ويتجاهل، فإن موافقته المستبعدة حتى الآن ستوظف من قبله باتجاه آخر غير الاتجاه الذي يسعى إليه عباس. سيعتبر أنه جامل أصدقاءه الجدد في موسكو، وسيستغل مبدأ اللقاء كي يوجه رسالة للعالم بأنه لا يزال راغباً في السلام، حتى لو ضم الضفة الغربية كلها.
الفلسطينيون لن يعارضوا لقاء رئيسهم بالسيد نتنياهو، ليس بفعل رهان سياسي على هذا اللقاء؛ بل ربما على مستوى احتمال إرخاء القبضة الإسرائيلية الخشنة عن رقابهم. وهذا كما يقول المثل العامي المتداول في حالات من هذا النوع: «أحسن من بلاش».
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع