توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«الحرام» ليوسف إدريس: ملحمة عن معاناة البائسين

  مصر اليوم -

«الحرام» ليوسف إدريس ملحمة عن معاناة البائسين

بقلم - ابراهيم العريس

 تمكنت السينما المصرية ذات حين من الجمع بين روايتين لم يكن من السهل الجمع بينهما لولا أن مخرج الفيلمين كان واحداً هو هنري بركات وبطلتهما كانت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة. فإذا أضفنا حقيقة أن كلاً من الفيلمين - وهما «دعاء الكروان» و «الحرام» طبعاً - ينطلق أساساً من واقعة اغتصاب تقع المرأة ضحيتها، ليسير كل منهما بعد ذلك على سجيته، طارحاً موضوعه مشعّباً حبكته، تبعاً لوجهة نظر كل من كاتبيهما: المتنور طه حسين، والثائر على عيوب المجتمع يوسف إدريس، سنجدنا أمام عملين استثنائيين شديدي الجرأة، لا سيما في التصدي لقضية المرأة في مجتمعاتنا.

وهذه المرأة، كما نعرف، كانت هي في التقاليد الاجتماعية، المسؤولة الرئيسية عما يحدث لها، وحتى حين تغتصب، حيث ينحو المجتمع دائماً إلى إيجاد الذرائع والمبررات للرجل إن كان مغتصباً، أو للأخ أو الأب أو الخال إن كان قاتلها.

> ولكن، فيما تطرح «دعاء الكروان» موضوعها في شكل أقرب إلى الخصوصية وإلى البعد السيكولوجي، نجد «الحرام» وعلى خطى «ثورية» يوسف إدريس و «تقدميته»، يطرح الموضوع من ناحية اجتماعية طبقية، ما كان في إمكان كاتب من طينة طه حسين أن يعطيها المكان الأول من اهتمامه الخاص.

> في»الحرام» لدينا عزيزة، المنتمية إلى فئات ريفية مهمشة إلى حد لا يطاق، لا تجد رزقها إلا في العمل الموسمي مرتحلة بين منطقة وأخرى حيث يتوافر هذا العمل، من هنا يطلق على أهل هذه الفئات اسم عمال التراحيل، أو الغرابوة - على أساس أنهم دائماً غرباء أين ما حلّوا وارتحلوا - هم أناس لا يلتفت إليهم أحد، بالكاد يحصلون على غذائهم مقابل العمل... فإذا عجز الفرد منهم عن العمل، يموت جوعاً ومرضاً، كحال حيوانات الأدغال، مع فارق أساسي يكمن في أن الحيوانات هذه يمكنها افتراس الذي هو أضعف منها مرتبة لتأكله.

أما عمال التراحيل، فإنهم عاجزون عن هذا، بخاصة لأن من النادر أن يكون ثمة في مجتمعاتهم من هو أدنى منهم أو حتى أضعف. والحقيقة أن وصف هذا كله، يشغل من كتاب يوسف ادريس صفحات عدة، حتى وإن كان التركيز أشد على زوجين من أبناء هذه الفئة هما عزيزة وزوجها. فهذان ظلا يعملان مدبّرين شؤون العيش حتى اليوم الذي يقع فيه الزوج مريضاً... ويصبح على عزيزة أن تتولى قضية الحصول على وسائل البقاء. لكن هذا ليس كل شيء، إذ ذات يوم ولفرط ما برحّت به آلامه وضروب ذلّه، يطلب الزوج من عزيزة أن تأتيه بحبة بطاطا... ولا يكون أمامها إلا أن تقصد حقلاً لتحاول أن تحصل لزوجها على ما يريد. وهكذا كان لا بد من أن يحصل ما يحول الحكاية من واقع يومي إلى دراما، قد تكون في السياق استثنائية، لكننا نفهم من سياق العمل ككل، أنها يمكن أن تقع في أي لحظة. وتتمثل الدراما في وجود صاحب الحقل، الذي ما إن يرى ما فعلته عزيزة، حتى يدنو منها، في اللحظة التي تحاول الهرب. فيقبض عليها ثم يغتصبها على رغم مقاومتها، وبعد محاولة أولى فاشلة... ثمناً لحبة البطاطا.

> طبعاً، بعد ذلك الاغتصاب كان يمكن الحياة أن تسير في دوامتها المعتادة... لكن الذي يحدث، هو ان عزيزة تحمل سِفاحاً. وهي إذ تكتشف هذا، ولا تعرف طبعاً كيفية التخلص من الحمل، تربط طوال شهور حزاماً تشد به بطنها مانعة إياه من الظهور... وفي نهاية الأمر، وخلال يوم عمل شاق، تنتحي عزيزة جانباً وسط طبيعة صارت الآن شديدة القسوة والهيمنة، وتضع الطفل، الذي إذ لا تدري ماذا تصنع به مع أن لا بد من فعل ما لدرء الفضيحة، لا تجد أمامها إلا أن تقتله، فتخنقه مرة أولى لكنه لا يموت، ثم تقتله في محاولة ثانية في تذكير شديد الذكاء والإيلام بيوم الاغتصاب حين فشل المغتصب صاحب الحقل مرة أولى ليكرر التجربة، كأن عزيزة تحاول أن تقتل الطفل الوليد مرتين مقابل اغتصابها مرتين، ما يضاعف حجم التأثير. وفي وقت تالٍ يتم العثور على اللقيط المقتول، وتبدأ تحريات، تقود إلى عزيزة، التي سرعان ما تموت هي الأخرى، ضحية لكل ذلك البؤس... في وقت يتحلق الفلاحون البائسون أمثالها حول جثمانها وذكراها وقد أضحت رمزاً لبؤس فقراء الفلاحين ونضالهم في سبيل العيش والكرامة.

> واضح هنا أننا أمام عمل ملحمي كبير، وأمام عمل مؤثر وفاعل على الصعيد الاجتماعي. والحقيقة أن إدريس تمكن من أن ينأى بهذه الرواية عن أن تكون مجرد نص يتحدث عن قضية فرد واحد هو عزيزة طبعاً، بل جعله أشبه ما يكون بتأمل لكل ما يحيط بهذه الشخصية، من الشعب إلى الثقافة.

> ولقد تمكن إدريس من هذا لأنه في الأساس كان مبدعا مشاكساً إلى درجة أن تصرفاته ذاتها كانت تبدو غريبة ومبهمة تحفل بألف معنى ومعنى وتثير سوء الفهم حوله وبينه وبين المحيطين به. من هنا كانت ثمة، على الدوام، في الحياة الأدبية المصرية، أحجية اسمها يوسف إدريس. في اختصار كان إدريس الراحل عام 1991، مليئاً بالقلق والتوتر، على عكس سلفه الكبير نجيب محفوظ الذي كان هادئاً عذباً كماء النيل، عميق الأغوار مثله. ولقد انعكس توتر إدريس وقلقه في رواياته وقصصه القصيرة، ما جعل لأدبه نكهة استثنائية، وجعله في مجال القصة القصيرة والكتابة المسرحية في الأقل، واحداً من أبرز الوجوه التي عرفها الأدب العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

> وعلى رغم أن يوسف إدريس كتب من الروايات ما أثار الزوابع النقدية، وأحياناً السياسية، وأن روايته الأساسية هذه، حققت شهرة عالمية، عبر ترجمتها إلى الكثير من اللغات، وشهرة محلية استثنائية عبر اقتباسها في فيلم هنري بركات، يعتبر، في المقام الأول، كاتب قصة قصيرة، ومجموعاته التي قرئت في طول العالم العربي وعرضه، على نطاق واسع، تعتبر مدرسة قائمة في ذاتها، وقصصه لا تضاهى سواء من ناحية النبض والإيقاع اللذين تحملهما، أم من ناحية جرأته الاستثنائية في تحميلها بالمعاني عبر موضوعات كانت غالباً ما تبدو جديدة على العالم الأدبي، وتتسم بجرأة قصوى، في تعاطيها مع محرّمين، في الأقل، من محرّمات الثقافة العربية: الجنس والسياسة.

> والغريب في أمر يوسف إدريس، أننا نكتشف اليوم، بعد سنوات طويلة مضت على رحيله المفاجئ والمؤلم، أنه كان من أقل أبناء جيله إثارة لاهتمام النقاد والباحثين. فاذا استثنينا عدداً قليلاً من النقاد الذين اهتموا بأدبه، ندر أن نجد بين الدارسين الكبار والجديين من أولى اهتماماً حقيقياً به. ولربما صح أن نقول أن أدب الرجل نفسه، وشخصيته القلقة وانعكاس ملامح تلك الشخصية في الأدب ردعت النقاد عن تناول أدبه.

> وأدب إدريس ليس من اليسير تناوله، في أي حال. فمن مجموعة «أرخص ليالي» التي كانت من أول ما أطل به على القراء أوائل سنوات الخمسين، إلى كتاباته الأخيرة في كتب مثل «فقر الفكر» ومجموعات مثل «بيت من لحم» (1971) و «آخر الدنيا» (1961) و «حادثة شرف» (1957) مروراً بأعمال مثل «جمهورية فرحات» (1956) وبخاصة روايتيه الأساسيتين، «الحرام» و «البيضاء»، عرف يوسف إدريس كيف يكون استفزازياً وتحريضياً، وكيف يحرق المراحل، ويضيع على مقتفي أثره معالم الدروب. وعلى هذا النحو مثلاً، منذ هوجمت روايته «البيضاء» أواخر سنوات الستين من النقد اليساري، اعتبرت كتاباً ملعوناً واستنكف النقاد عن قراءتها وولوج عالمها، بحيث إن الأمر احتاج إلى انتظار عشرين سنة قبل أن تُقرأ الرواية ذاتها قراءة جديدة فتُكتشف فيها عوالم أخرى، وتبدو للنقاد أنها رواية جلد للذات، أكثر مما هي رواية تحاول أن تنتقد «اليسار أو تدمره» كما رأى البعض، متسرعاً عند صدورها.

> في المسرح أيضاً، خاض يوسف إدريس عدداً كبيراً من المعارك، بدءاً بمعركة هدفها الوصول إلى شكل وأفق جديدين للمسرح العربي (كما في «الفرافير») وصولاً إلى المعارك السياسية وصولات الدفاع عن الحرية، تلك الحرية التي حُرم منها يوسف إدريس مرات عدة خلال مساره الطويل، ومنها أن أودع السجن ذات مرة خلال سنوات الخمسين. لقد كان يوسف إدريس مبتكراً على الدوام واستفزازياً على الدوام كأنه، كان دائماً، واحداً من شخصيات مجموعته القصصية الأجمل «لغة الآي آي» الحافلة بالقلق والتوتر والرغبة في تحطيم كل شيء.

نقلا عن الحياة اللندنية

 

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 01:13 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

التوافق ينتصر للسودان .. والمعركة مستمرة

GMT 01:12 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

مصر الفيدرالية

GMT 01:06 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

فاتورة الحرب.. مدفوعة مقدمًا!

GMT 05:30 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

مشاكل ترامب أمام القضاء الأميركي

GMT 05:29 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

من مفكرة الأسبوع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الحرام» ليوسف إدريس ملحمة عن معاناة البائسين «الحرام» ليوسف إدريس ملحمة عن معاناة البائسين



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية

GMT 12:20 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

طلائع الجيش يبحث عن مهاجم سوبر فى دوري المظاليم

GMT 15:09 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

فان ديك يحصد لقب أفضل لاعب بنهائي دوري الأبطال

GMT 15:15 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مشروع "كلمة" للترجمة يصدر "كوكب في حصاة"

GMT 20:20 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

صدور رواية "الطفلة سوريا" لعز الدين الدوماني
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon