بقلم - حسن حنفي
هو سؤال يطرحه المفكر السياسى والمشاهد لتجارب دول عدة فى العلاقة بين الليبرالية والرأسمالية، أيهما أسبق تاريخيا، وأيهما ينبنى على الآخر عقليا؟ وللإجابة عن هذا السؤال يلاحظ أنه لا توجد إجابة واحدة قاطعة بنعم أو لا، ولكن هناك تجارب عدة دول مثل الدول الغربية، أوروبا وأمريكا، ودول شرقية، روسيا والصين، ودول عربية إسلامية مثل مصر وتركيا. تتشابه أكثرها وتختلف أحيانا. وتختلف أكثر مما تتشابه. وأحيانا أخرى لا يقلد بعضها بعضا. فالبنية واحدة بالرغم من اختلاف الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والسياسية.
فيثبت تاريخ الغرب الأوروبى والأمريكى أن الليبرالية قد سبقت الرأسمالية. بل إن الليبرالية هى الأساس النظرى الفكرى للرأسمالية كنظام عملى اقتصادى. الليبرالية هى السياسة، والرأسمالية هى الاقتصاد. وبدأت الليبرالية فكرا منذ الإصلاح الدينى فى القرن الخامس عشر أو النزعة الإنسانية فى القرن السادس عشر، وحرية الفكر فى السابع عشر، والثورة الفرنسية فى الثامن عشر حتى بلغت الرأسمالية أوجها فى القرن التاسع عشر، قبل أن تبدأ أزمتها فى القرن العشرين. وبالرغم من مآثرها فى حرية الفكر ورفض سلطة الكنيسة والإقطاع، والبداية بحرية الفرد وديمقراطية المجتمع إلا أنها وقعت فى الرغبة فى جمع رأس المال. فاستبدت الدول الغنية بالمواد الأولية والأيادى العاملة الرخيصة لدرجة استجلابها كعبيد من أفريقيا. لذلك كُتب «الاستعمار أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية». وأصبحت وسيلة لتراكم الثروات بلا حدود. يرمز إليها تمثال الحرية فى ميدان الباستيل الذى عُرف باسم معتقل الأحرار، وتمثال الحرية فى نيويورك. فالليبرالية فى السياسة والاقتصاد تبدأ بحرية الفرد وعدم تدخل الدولة فى الاقتصاد الحر للأفراد والجماعات والشركات الخاصة. كل حسب عمله. ولا حدود للرأسمالية لدرجة العدوان على الآخرين بحثا عن المواد الأولية والأسواق. واشتهرت بمركزها فى «التجمع الحربى الصناعى» فى الولايات المتحدة الأمريكية وبالشركات الصناعية الكبرى فى ألمانيا وإنجلترا والتى تعادل ميزانية كل منها ميزانية دولة نامية بأكملها. وقد كان اكتشاف أمريكا بحثا عن الحرية من الاضطهاد الأوروبى وعن الثروة للمغامرين والباحثين عن الذهب. واستجلبت الأفارقة كأياد رخيصة وعبيد لبناء المجتمع الأمريكى كما فعلت فرنسا مع الجزائريين.
أما التجربة الأخرى فهى التجربة السوفيتية والصينية والعربية والإسلامية. وهى التجربة التى حاولت تطبيق النظام الاشتراكى دون المرور بالمرحلة الليبرالية أولا. فتحولت الاشتراكية إلى استبداد. أعطت الأولوية للدولة على الفرد، وللعمل على الحرية، وللإنتاج على حقوق الإنسان. وقدمت القطاع العام على القطاع الخاص، وحقوق الجماعة على حقوق الأفراد. وكانت النتيجة هروب الأصوات المعارضة إلى الخارج، وظهور الأدب الرمزى دفاعا عن الحرية وحقوق الإنسان. وتبع ذلك سقوط النظام الاشتراكى كله فى روسيا وفى أوروبا الشرقية التى تبنته عام 1990. فرّقت الأوطان وقسمتها بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ثم تحطيم حائط برلين، دفاعا عن وحدة الأوطان. ومازالت الصين وكوريا الشمالية تتمسكان بالاشتراكية بالرغم من أحداث الميدان السماوى فى بكين وثورة الطلاب منادين بالحرية.
ثم ظهرت الليبرالية الجديدة للتخفيف من غلواء الرأسمالية. وسمحت نسبيا لتدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، وبعمل القطاع الخاص، والدفاع عن حرية الفكر. فكل تطرف مثل الليبرالية يخلق تطرفا مقابلا مثل الاشتراكية. وكل تطرف مثل الاشتراكية يخلق تطرفا جديدا مثل الليبرالية بالرغم من أن التجربة الليبرالية أسبق تاريخيا من التجربة الاشتراكية. ثم تأتى اللحظة الثالثة فى جدل التاريخ وهى الليبرالية الجديدة أو الاشتراكية الجديدة. إذ تسمح الليبرالية الجديدة ببعض عناصر الاشتراكية مثل تدخل الدولة للصالح العام، وحق الجماعة الموازى لحقوق الأفراد. كما تأتى الاشتراكية الجديدة لتسمح ببعض النشاط الفردى الحر، والمنافسة، وتفعيل عامل الربح فى النشاط الاقتصادى. كما تدافع عن حريات الشعوب، وتناهض الاستعمار، وتساعد حركات التحرر الوطنى، وتدعو للسلام حتى لا تستأثر النظم الاشتراكية بمنظمة السلام العالمى، وحركات حقوق الإنسان، وجمعيات الإخاء بين الشعوب.
وتعددت الاشتراكيات. فظهرت الاشتراكية العنصرية فى حركة المستوطنات الإسرائيلية التى تقوم على الاستيطان فى أراضى الغير (الكيبوتس). كما ظهرت الاشتراكية النازية والفاشية التى تقوم أيضا على نقاء الجنس الآرى وتفوقه على الجنس السامى.
وربما أدرك الجميع أن الاشتراكية العربية أو التطبيق العربى للاشتراكية قد انتهت إلى الاستبداد والفساد وخلق طبقات جديدة من كبار ضباط الجيش ومديرى شركات القطاع العام ورجالات الاتحاد الاشتراكى. أنجزت تغيرات اجتماعية يشهد لها مثل الإصلاح الزراعى، والتأميم، والتمصير، وقوانين يوليو الاشتراكية 1961-1962، وقطاع صناعات وطنية، ومدن العمال ولجان تحديد إيجارات المساكن، ومجانية التعليم العالى. ثم انقلب ذلك إلى الضد فى الخصخصة، والتعليم الخاص، والتحالف مع القوى الأجنبية، وتفتيت الوطن العربى، والسلام مع إسرائيل قبل الانسحاب من الأراضى المحتلة فى الضفة الغربية والجولان. وذلك لأنها لم تقم على أسس ليبرالية. فقد ارتبطت الليبرالية بالملكية والإقطاع بالرغم من أنها كانت الحامل للحركة الوطنية. بل تحولت ليبرالية النخبة إلى تيار سلفى معاد لليبرالية. يعتمد على النقل وليس العقل. وفى الخليج قامت رأسمالية نفطية تجد شرعيتها فى الدين وطاعة الحاكم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
تعددت الاشتراكيات دون أساس ليبرالى مثل تجربة التسيير الذاتى بالجزائر، والاشتراكية الأفريقية، والاشتراكية المسيحية نتيجة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية، والاشتراكية الإسلامية فى أحزاب العدالة والتنمية فى المغرب وتركيا، واليسار الإسلامى الذى لم يُقدر له خوض التجربة العملية وظل على مستوى أمانى الشعوب العربية والإسلامية صعبة المنال، لأن الليبرالية كوسيلة لم تستخدم لقراءة الثقافة الشعبية المحافظة وتحقيق الأهداف القومية كغاية ومنها الاشتراكية.
نقلا عن المصري اليوم القاهريه