معرفة معانى الألفاظ قبل استعمالها جزء من فلسفة اللغة حتى لا يُساء استعمالها فى معان غير مقصودة. وهو ما يسمى «الالتباس غير المقصود». لذلك من الضرورة الاطمئنان إلى حسن استعمال الألفاظ بمعانيها للتعبير عن المقصود التعبير عنه. وقد نبه القرآن الكريم على ذلك فى قوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا». حين استعمل اليهود كلمة راعنا بعد لىّ اللسان لغير المقصود منها. قد يحدث ذلك قصدا كما هو الحال عند اليهود بلىّ اللسان لتغيير صوت اللفظ أو عن غير قصد بالتباس معانى الألفاظ قبل استعمالها فتستعمل فى غير المقصود التعبير عنه منها. وهو أحد أسباب نشأة علم البلاغة. واللغة تعبير وإيصال. فإن غمض التعبير لم يصل المعنى. وعلاقة اللفظ بالمعنى وإن كانت فى معاجم اللغة إلا أنها أيضا فى الاستعمال اليومى وليس فقط فى المعنيين الاشتقاقى والاصطلاحى.
والخطورة هو سوء استعمال الألفاظ فى الخطابين الدينى والسياسى. فالدين هو بؤرة الثقافة العربية والتى طبّعها بطابعه، مما أثار رد فعل العلمانيين. والسياسة هى ميدان الاستعمال اليومى والصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة.
والأخطر من ذلك كله عندما يقع سوء استعمال الألفاظ فى الخطاب الرئاسى والخطاب الإعلامى. الأول محل التصديق. والثانى كذلك. وتعنى القوة «الغاشمة» القوة العمياء، غير المبصرة أو غير المدركة. هى القوة العشوائية التى تضرب بصرف النظر عن إصابة الهدف المحدد لها. تضرب كرد فعل غير مضبوط على فعل بغرض الثأر والانتقام الذى نحاربه فى عادات الصعيد بين الأسر والقبائل.
هى القوة التى تخيف بصرف النظر عمن تخيف، بل تقصد الخوف ذاته حتى لا يتجرأ أحد عليها تشبها بالإله وصفاته. فهو القوى، ولكنه قوى عزيز أى عادل لا يظلم. يعز عليه ضرب الأبرياء. والعزة هو التعالى عن الظلم، وارتكاب القبائح، والترفع عن إسالة الدماء.
مع أن المقصود من استعمال لفظ «الغاشمة» لوصف القوة هو القوة العادلة، القوة المبصرة، القوة التى تضرب بقسوة دون رحمة المعتدين وقتلة الأبرياء. هى القوة العادلة التى تأخذ حقوق الضحايا وتحافظ على حياة الناس. هى القوة التى لا تزيد عن حدها. وتعمل فى حدود القانون. هى قوة الدولة التى تحافظ على حياة جميع المواطنين دون فرق بين عرق وطائفة. هى القوة التى تحافظ على نفسها وعلى غيرها دون تمييز بين حاكم ومحكوم.
وهناك نماذج عديدة من القوة الغاشمة مثل الغزو الاستعمارى الغربى لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومحو لغاتها المحلية وإحلال لغات المستعمرين بدلا منها، الإنجليزية فى أمريكا وكندا وجنوب أفريقيا، والفرنسية فى كندا الفرنسية، والإسبانية فى المكسيك، والبرتغالية فى البرازيل. وهناك من البلدان ما تم استعمارها ولكنها قاومت لغة المستعمرين واستردت لغتها الوطنية مثل العربية بالجزائر وليبيا والصومال وإريتريا. فالعربية ليست لغة فقط ولكنها قومية. وحروب النازية فى أوروبا من أجل جعل أوروبا كلها جرمانية، والفاشية فى إيطاليا من أجل العودة إلى القومية اللاتينية. هى حروب غاشمة لا تقوم على قانون عادل بل على البطش والقوة لإثبات أن «ألمانيا فوق الجميع». وهناك الغزو الفرنسى ثم الأمريكى لفيتنام. وهناك حروب أقرب إلى الغزوات منها إلى الحروب مثل غزو أمريكا للعراق 2003 بدعوى امتلاك أسلحة الدمار الشامل التى تمتلكها إسرائيل، والعدوان الروسى على سوريا بدعوى القضاء على الإرهاب. وهناك العدوان الثلاثى على مصر من فرنسا وإنجلترا وإسرائيل عقابا لها على تأميم قناة السويس فى 1956. وهناك العدوان الإسرائيلى على مصر 1967 بدعوى إغلاق حرية الملاحة فى خليج السويس، وسحب القوات الدولية من جزيرتى تيران وصنافير. وقد يكون العدوان داخل القومية الواحدة مثل تدخل القوات الإماراتية والسعودية فى اليمن بدعوى الدفاع عن الشرعية حتى ازداد اليمن تقسيما وجوعا وفقرا ومرضا لملايين من الأطفال. وباقى العرب والأمم المتحدة لا يفعلون شيئا. وكان قد سبق ذلك غزو العراق لإيران بدعوى تحرير الأهواز، الساحل الإيرانى الذى يسكنه العرب وجنسيتهم إيرانية. وكذلك غزو العراق للكويت بدعوى استرداد مناطق النفط الجنوبية للعراق أو الشمالية للكويت. وهناك أيضا قصف بالصواريخ بين السعودية واليمن خلافا على عسير ونجران.
كل ذلك نماذج للقوة الغاشمة التى رفض عبدالناصر استعمالها وقت الانفصال عن سوريا فى 1961. وضحى بالجمهورية العربية المتحدة لأن العربى لا يقتل العربى عندما ظل شمال سوريا مع الوحدة.
وهناك نماذج أخرى للقوة العادلة، القوة المبصرة، القوة التى تحدد أهدافها بوضوح. وذلك مثل حروب التحرير من الغزو الاستعمارى، نموذج حرب تحرير الجزائر ضد الاستعمار الفرنسى على يد المقاومة المسلحة الجزائرية، ومقاومة الليبيين الاستعمار الإيطالى وعلى رأسهم عمر المختار، ومقاومة جنوب أفريقيا للاحتلال البريطانى على يد نيلسون مانديللا، ومقاومة الشعب الفيتنامى للغزو الفرنسى ثم الأمريكى، ومقاومة الأفغان ضد الغزو الأمريكى، والمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلى والاستعمار الاستيطانى.
وقد تستعمل الدولة نفسها القوة الغاشمة من خلال أجهزتها، من أجل ممارسة العنف ضد المعارضة السياسية السلمية أو العنيفة وكأن السلاح هو المنطق الوحيد لتأمين سلامة الدولة ضد خصومها. فتظهر القوة الغاشمة فى إطلاق الرصاص كما وكيفا، وتدمير المنازل، وربما قتل الأبرياء بدعوى تأمين سلامة الدولة، والحفاظ على حياة المواطنين. هنا تصبح القوة الغاشمة أداة صراع بين المتخاصمين، وليس الحوار الوطنى للوصول إلى معرفة أسباب الخصام ومحاولة إزالتها، ثم المصالحة الوطنية، وتكوين حكومة ائتلافية تمثل جميع القوى السياسية فى البلاد.
وتبدأ القوة الغاشمة منذ الصغر عندما يضرب الأب ابنه بدعوى التربية فيفقأ إحدى عينيه. وكذلك عندما يضرب المدرس التلميذ فيصيبه بعاهة تجعله يفر من المدرسة هربا من هذه القوة الغاشمة. وعندما يعاقب الأستاذ الطالب بالحبس والتعذيب ورفع اليدين. وعندما يحاط طلاب الجامعة بالمدرعات والمصفحات والرشاشات لمنعهم من التظاهر وكأنهم فى ساحة حرب. وعندما يُفصل الموظف لأنه رفض الرشوة والنفاق. وعندما يضرب الزوج زوجته أو يطلقها أو يتزوج عليها لعقابها. وكما يتم مع الأطفال ذوى العاهات فى الطريق، أُخذوا أصحاء من أجل تحنين القلوب عليهم حين الشحاذة. وعندما يضرب ويهان المواطن فى أقسام الشرطة، ويعذب فى السجون والمعتقلات.
إن القرآن معجزة لغوية. يعلم كيفية استعمال الألفاظ واختيار الكلمات وتكوين الصور الفنية. وليس منها «القوة الغاشمة».
نقلا عن المصري اليوم القاهريه