بقلم : حسن حنفي
هذا تحليل قريب من الجغرافيا والتاريخ. وهو فى الظاهريات الاجتماعية، أى وصف للتجارب الحية بعد زيارة قصيرة لبورسودان الساحلية على البحر الأحمر والتى لا تبتعد كثيرا عن سَواكِنْ وجنوب الحدود المصرية فى حلايب وشلاتين. ليس فيها أثر يُذكر لبريطانيا على الرغم مما أخذنا فى المدارس عن الاستعمار الإنجليزى للسودان. صحيح أن لفظ «بور» معرّب عن الإنجليزية أو الفرنسية، ولكنه تحول إلى لفظ عربى مثل بورسعيد، بورتوفيق. والحضور الأمريكى غائب تماما بالرغم مما يُقال عن عرب الشرق والشمال عن التحالف العربى الإسرائيلى الأمريكى قبل أن تحل قضية فلسطين أو من أجل حلها. أما الحضور المصرى فهو كثيف فى العمالة والمنتجات والجو الشعبى العامى واللهجة والرائحة والعواطف، بل الانفعالات.
ومدينة بورسودان مثل معظم مدن السواحل تمتد طولاً لا عرضاً. أهم شوارعها هو الكورنيش على امتداد البحر الأحمر قبل الوصول إلى الميناء. وهى المدينة الثانية بعد العاصمة (الخرطوم) والميناء الأول، مثل الإسكندرية بالنسبة إلى القاهرة. فيها مطار دولى تصله الرحلات المباشرة من القاهرة مرتين أسبوعيا. وبعد وصول آخر طائرة محلية أو دولية من الحجاز يغلق المطار. وتـُطفأ الأنوار. يحتاج المواطن الذى يقل عمره عن الخامسة والأربعين إلى تصريح من الأمن العام، خشية أن يكون عضوا بإحدى الجماعات الإسلامية المعتدلة أو المتطرفة. الكورنيش نظيف. طريق ممهد بالأسفلت. وعلى جانبيه فيلات سكنية أنيقة. والمساحات الخضراء بينها طبيعية. وعلى أحد الجانبين نادى عِلْية القوم. يخلو من المحلات التجارية. وعلى نفس الضفة خيم مقاهٍ. ويشق الكورنيش ميدان «حبيبى مفلس» المفتوح للجميع للقاء الأحبة والأصدقاء..
.. وقبل الميناء هناك السوق الشعبية الذى يزخر بكل شىء. ويبدأ الزحام فيه.
وفى طريق العودة من الداخل أى الطرقات الموازية للكورنيش داخل المدينة تظهر المفارقات، بيوت من الطوب الأحمر ذات الطابق الواحد، ودكاكين المهنيين (السباكين، والنجارين، والحدادين، والمنجدين). وبعضها بالخشب والصفيح. وهو ما نسميه فى مصر «العشوائيات». بينها طرق غير ممهدة يعلوها التراب. فبقدر ما كان الإنسان مسرورا وهو سائر على الكورنيش، يصبح حزينا ومغموما وهو سائر فى الداخل. ويتذكر تفرقة القدماء خاصة الصوفية بين الظاهر والباطن، بين العمار والخراب. فلو كنت مواطنا سودانيا وأنا أمام هذه المفارقة فماذا أفعل؟ أكون إسلاميا يساريا يحاول أن يذيب الفوارق بين الطبقات. وهو تعبير ناصرى. فالإسلام ينص على رد الأغنياء أموالهم على الفقراء «وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ». والأولوية فى صرف الأموال على المساكين واليتامى والأسرى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا». فجوهر الدين هو العناية باليتامى والمساكين «أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ». وما أكثر الأحاديث بهذا المعنى «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ». والهدف هو تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق الموروث الشعبى. والخوف كل الخوف أن تسيطر الجماعات الدينية المحافظة على تفسير الدين. وتجعله مجرد شعائر وطقوس أو كفارات وحدود أو الحاكمية لله. فتخرج على المجتمع الكافر وترتكب أبشع أنواع العنف فى قتل الأبرياء دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإعطاء الأولوية للتغيير باليد وليس باللسان أو القلب. وقد أتت الاشتراكية العربية أو التطبيق العربى للاشتراكية أو الناصرية من أجل تذويب الفوارق بين الطبقات، والإصلاح الزراعى، والتأميم، والقطاع العام، والتصنيع، ولجان تقدير الإيجارات، وشتى مشاريع التنمية. والخوف أن تنقلب الناصرية من داخلها وعلى نفسها فتتحول إلى نقيضها فى أن الرأسمالية ليست جريمة، والعودة إلى القطاع الخاص، ورأس المال المستقل، والفساد، والجمع بين السلطة والمال والاستبداد.
وربما لتحولت إلى الماركسية مباشرة. فهى أكثر صراحة فى الدفاع عن العمال والفلاحين، واعتبار العمل مصدر القيمة، والاعتراف بالصراع بين الطبقات، وفك العلاقة بين السلطة ورأس المال. فالسلطة للشعب. ورأس المال للعمال والفلاحين. والخشية أن تتهم الماركسية بالمادية والإلحاد مما يجعل محاصرتها سهلة وسط الثقافة الشعبية الدينية. وقد تتحول الماركسية إلى نوع من العقائدية التقليدية بالرغم من تطورها فى الماركسيات الجديدة. كما تتهم بالتبعية للاتحاد السوفيتى أو للصين أو لكوريا الشمالية أو لكوبا أو لما تبقى من النظم الماركسية التقليدية.
فإن لم يرضَ السودانى بهذه الحلول الأيديولوجية، فلم يبق له إلا «موسم الهجرة إلى الشمال» بتعبير الرواية السودانية الشهيرة. والشمال بالنسبة للسودانى هو مصر، وليس الغرب حيث العلم والثقافة وفرص العمل. والسودانيون هم أكبر جالية فى مصر، أكثر من الفلسطينيين والسوريين. فكما أن أوروبا هى الشمال بالنسبة للمصرى، فإن مصر هى الشمال بالنسبة للسودانى. وكما أن السودان هو الشمال بالنسبة للسودانى الجنوبى. فالحضارة تأتى من الشمال. والسودانى يشير إلى أن مصر هو الامتداد الشمالى للسودان كما يشير المصرى إلى أن السودان هو الامتداد الجنوبى لمصر. يربطهما تاريخ مشترك. النيل بينهما رابط جغرافى وتاريخى. والنوبة تربط بينهما. وحتشبسوت ملكة مصر من السودان. ومحمد نجيب أول رئيس جمهورية مصرى بعد ثورة يوليو 1952 أمه سودانية. ومحمد على اعتبر السودان امتدادا جنوبيا لمصر حفاظا على أعالى النيل. والملك فاروق ملك مصر والسودان حتى بعد الثورة. فإن لم تؤثر الأيديولوجيا فى اختيار السودانى وأراد أن يمكث فى وطنه دون أن يهاجره «فلا هجرة بعد الفتح»، فلم يبق له إلا الحل الجغرافى التاريخى أى الوحدة مع مصر كما كانت دائما فى تاريخها الحديث. وقد نجح الحزب الوطنى الاتحادى بعد حق تقرير المصير للسودان عام 1956 والذى نادى بالاستقلال والوحدة. ثم تقلص الحزب. وبرز الصراع بين الإسلاميين والعسكريين. امتد أثره على مصر سلبا بخلق مشاكل لا وجود لها، مثل الصراع حول وادى حلفا فجعلها عبد الناصر محافظة الوحدة بين البلدين، لا حدود بينهما. ويمكن تكرار هذا النموذج فى كل صراع على الحدود بين قطرين عربيين شقيقين. وبذلك نتخفف من آثار معاهدة سايكس- بيكو بدلاً من زيادتها بتفتيت العرب فى مزيد من الأقطار العرقية والطائفية. تركها الاستعمار عن عمد حتى يظل الوطن العربى فى شقاق بينما تتوحد إسرائيل بين يهود المغرب ويهود المشرق. تتفتت الدول الوطنية التى قادت حروب التحرير فى الستينيات والآن قد تستحيل وحدتها القومية. فى مقابل إسرائيل التى تتوحد كدولة قومية.
الخوف من كل المداخل الأيديولوجية أن تتجه كلها إلى صراع على السلطة، وترك مشاريع التنمية التى لا ينقصها الإمكانيات. فهناك الموارد المائية والأراضى الزراعية والسواعد الوطنية. ومع ذلك يُتهم الشعب ظلما بالكسل والنوم وعدم الرغبة فى العمل، فالطقس الحار لا يشجع عليه. الخوف كل الخوف أن يرتكن الشعب إلى الثقافة الشعبية والطرق الصوفية يغرق فيها. فلكل سودانى طريقة صوفية يأمن لها ويمارسها بالغناء والرقص وضرب الدفوف بدلا من الأحزاب السياسية فى نظام سياسى متعدد الأحزاب.
الحل فى السودان إذن ليس أيديولوجيا، اختيار بين الإسلام والاشتراكية والماركسية، واقتصاديا، إعداد مشاريع تنموية نظرا لتوفر الإمكانيات. بل هو حل سياسى بالأصالة، بالعودة إلى وحدة وادى النيل التى من أجلها حارب محمد على من أجل نقل عاصمة الإمبراطورية العثمانية من آسيا إلى أفريقيا، من الآستانة إلى القاهرة. فالنيل لا ينقسم بين شمال وجنوب. كما لا ينقسم الجنوب إلى شمال وجنوب. والشمال أى السودان بين شرق وغرب، كردفان ودارفور. يستطيع الشمال، مصر، أن يأخذ بيد الجنوب، السودان. ويستطيع الجنوب، السودان، أن يأخذ بيد الجنوب، جنوب السودان. ويستطيع جنوب السودان أن يأخذ بيد بعضه البعض من صراع القبائل على السلطة. تستطيع وحدة وادى النيل أن تحافظ على وحدة العرب والأفارقة، بين شمال الصحراء وجنوبها، وأن يقيم الحوار على الأرض بين الإسلام والمسيحية، بين أنصار التراث وأنصار التغريب، بين القديم والجديد. فوحدة وادى النيل هو طريق السودان نحو التقدم، طريق محمد والنجاشى فى الهجرتين الأولى والثانية وليس طريق أبرهة.
خلاصة القول: إن وحدة السودان مع مصر مسألة حياة أو موت لكليهما. إذا تعثر أمن مصر الشمالى كما حدث دائما منذ غزو الهكسوس قديما حتى عدوان إسرائيل حديثا، فإنها تقطع رأسها فى سيناء، وتطمئن إلى جنوبها. وإذا انفصل جنوب السودان عن السودان فإنه يصيب السودان فى مقتل، إذ يصبح جسدا بلا ساقين. وإذا انفصل جنوب جنوب السودان كما تبغى القوى المعادية ركع كلاهما، فما قيمة الجسد بلا أطراف؟ وقد يكون قبول جنوب السودان عضوا بالجامعة العربية مقدمة لوحدة السودان شمالا وجنوبا، وحماية له من التغريب والطائفية والقبلية.
نقلاً عن المصري اليوم