هاتفنى من «سيدنى» صديقى فى المهجر الصحفى اللبنانى أنيس غانم، رئيس تحرير صحيفة «التلغراف» الأسترالية الناطقة بالعربية، وكنت أعمل مراسلا لها فى القاهرة، يخبرنى بقدوم شاعرة أسترالية عظيمة القيمة إلى القاهرة، وتتمنى لقاء الأستاذ نجيب محفوظ وتحمل معها قصيدة كتبتها خصيصا بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، وكل أمنيتها لقاء أن تجلس إليه وتلقى قصيدتها بين يديه.
التقيت الشاعرة الأسترالية المعروفة «آن فيربيرن» فى شقتها بشارع حسن صبرى بالزمالك.. امرأة كهلة، مديدة القامة، واسعة العينين، تتدفق حيوية ونشاطا، وتتحدث بلباقة دافقة، ولديها دراية واضحة بتاريخ «الأدب العربى، شعره ونثره» مع عطفة تخصصية فى أدب «وادى الرافدين» قديمه وحديثه، وتعد فى بلادها جسر عبور الأدب العربى إلى المهجر عبر ترجمات لعديد من شعراء العراق والشام ومصر، والتقت أخيرا الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت عند زيارتها سيدنى، وتحل «آن فيربيرن» ضيفا عزيزا على المهرجات الثقافية العربية فى المهجر وسافرت إلى العراق والشام وخبرت أدبهما، وظلت لديها أمنية أن تأتى إلى القاهرة للقاء أمير الرواية العربية نجيب محفوظ.
أسرّت «آن فيربيرن» لشخصى أنها حلمت بهذا الأديب الخرافى وحدثها وسمعت منه فى الحلم، وتحمل معها قصيدة وهدية، أما القصيدة فهى «حديقتان بالقاهرة» توفرت عليها بشحنة إعجاب يوم أعلن فوزه بجائزة نوبل، وهى القصيدة التى تغنت بها طويلا، وكانت تلقيها فى كل محفل للأدب العربى فى المهجر باعتبارها أيقونتها الخالدة، ويطلبها منها إلقاء بعربيتها اللطيفة أدباء المهجر وسفراء العرب، وكانت فى كل مرة تناجى طيف هذا العظيم وتحلق بقصيدتها تطلب اللقاء.
القصيدة منشورة فى «أخبار الادب»، سلمتها أمانة إلى الراحل الجميل جمال الغيطانى، لينشرها قاهريا بترجمتها شخصيا، كانت كتبتها بالإنجليزية وترجمتها، وهى جسر الترجمة فى المهجر، إلى العربية، ونشرها أنيس غانم فى «التلغراف» مع إشارة لاحتضان صحيفة «أخبار الأدب» الذائعة الصيت فى العالم العربى لأبياتها، مزينة بصورتها، وللأسف دون إشارة إلى كونها كبيرة المترجمات الأدبيات فى المهجر.
لم أكن أعرف من أين أسلك الطريق إلى مجلس الأستاذ، وكفانى الروائى الرائع يوسف القعيد مؤنة الحيرة، وطلب منى اصطحابها بعد إخبار الغيطانى إلى مجلس الأستاذ (غروب الثلاثاء الأسبوعى) فى الباخرة الشهيرة «فرح بوت»، وأخبرتها فكادت تطير من فرحتها، وتزينت كعروس ليلة زفافها، وارتدت أرق ما حملته من سيدنى، وفى السيارة الصغيرة التى أقلتنا، تسرح طويلا ثم تفاجئنى بسؤال به من العربية والإنجليزية مس شوق، حقيقى هنقابل الأستاذ محفوظ، وأطمئنها على قرب تحقق الحلم، وأنا مبهور بالأستاذ، ورأسى عال يكاد يلامس سقف السيارة التى تكابد الزحام القاهرى فى الطريق إلى لقاء غريب ومثير.
لم يكن قد وصل، على وصول، ومجلسه اكتمل الأساتذة جمال الغيطانى، ويوسف القعيد وآخرون لم ألتقهم قبلا، قبلها كنت من قراء الأستاذ لست من حوارييه، لا أملك من صفات حواريى الأستاذ شيئا، لا معلوما، ولا مقربا، ولا أنا شاعر ولا روائى ولا حتى ملم بالصحافة الأدبية التى تؤهل لولوج هذا المجلس من باب الصحافة، ضيف على مائدة الأدباء والشعراء والمفكرين.
للمجلس المحفوظى طقوس، الاقتراب بحساب، والجلوس بقواعد، والحديث بصوت عال، والأحاديث الجانبية نادرة، الأستاذ نجيب فقد كل بصره وضعف سمعه بعد محاولة اغتياله الآثمة، كان يعانى صحيا، ويتكفل أحدهما القعيد أو الغيطانى بنقل ما يدور إلى أذن الأستاذ نجيب، وكأنهما يصبان الكلام صبا فى أذنيه، فإذا كانت قفشة أو طرفة انبسطت أساريره، واستنار وجهه بابتسامة، وإذا أعجبته ضحك عاليا، أقرب إلى القهقهة حتى تبين أسنانه التى اصفرت من أثر التدخين، وكل حين بحسب تعليمات الطبيب يشعل أقربهم سيجارة للأستاذ، يأخذ نفسا أو نفسين، ويسحبها من أمامه إلى حين، قبل أن يطلبها هى له، آلة الزمن مضبوطة عند الأستاذ، والساعة البيولوجية لم تفسدها مطواة الجهل التى اخترقت رقبته الضعيفة، كان يقظا كامل الحواس، رائعا وهو يعقب بكلمة صغيرة، أو جملة من اسم وخبر، فعل وفاعل، وبالأسماء تعيها ذاكرته الحديدية، ولا الخيال.
جلسنا بعيدا، وسمح لنا بعد تعريف لطيف من الأستاذ يوسف، فيه واحدة جاية من أستراليا عاوزة تسلم عليك، ضحك الأستاذ، وعقب يوسف: سنها قد إيه؟، قالوا يعنى كبيرة شوية، فعقب وماله جبر الخواطر، وحكمت القافية وضحك الجميع وضحك الأستاذ، كانت فين من زمان؟، وقفشة أخرى: طبعا المشوار طويل، والسيدة فى عالم آخر، سرحانة فى حضرة الأستاذ، واقتربت بتؤدة، وأفسح القعيد مكانه لتجلس السيدة التى فاجأت الجميع بطبع قبلة على خد الأستاذ، وقالت هذا هو الحلم، أما القصيدة فقد ألقت أبياتا بصوت واهن، يقينا لم يسمعها الأستاذ على ما بدا منه من إطراق المستمع، ونهضت تفتح هدية، لوحة صغيرة فى حجم المنديل من مقتنياتها النادرة، عمرها يؤشر على أثريتها، تقبلها الأستاذ بكل الرضا، ونال قبلة ثانية، وعقب الأستاذ: «اعزم عليها يا يوسف تقعد معانا، وسهرنا وإياها فى حضرة الأستاذ»، والتقطت صورا تذكارية مع المجلس وبالقرب من الأستاذ، ونشرت الصور حينها فى «المصور» وحملت فى حقيبتها نسخة من الصور، وتركت القصيدة «حديقتان بالقاهرة» أمانة فى حوزتى لنشرها فى «أخبار الأدب» التى عرفتها على رئيس تحريرها الروائى الكبير جمال الغيطانى، ولم تغادر حتى جمعت روايات نجيب محفوظ وشيئا من روايات الغيطانى والقعيد، وأديت الأمانة ونشرت القصيدة التى بحثت عنها طويلا، ولم أعثر على أثر لها على الشبكة العنكبوتية، لم تكن الصحف دخلت العصر الإلكترونى بعد، وأرسلت لها على عنوانها فى سيدنى نسخا من أخبار الأدب، وردت بخطاب رائع كله حب فى الأستاذ نجيب محفوظ.
حاشية 1:
كشفت الشاعرة الأسترالية آن فيربيرن أن قصيدتها المعنونة «حديقتان بالقاهرة» تتناول أعمال الأديب الكبير نجيب محفوظ. وأوضحت الشاعرة الأسترالية أنها قرأت قصيدتها للمرة الأولى فى حضور الأديب الكبير بالقاهرة والذى أبدى إعجابا وتقديرا لها.
حاشية 2:
الأديب فى المهجر شربل بعينى يقول عن «آن فيربيرن»: «أدخلتنا التاريخ العالمى من بابه الواسع، وهمست فى أذنه: إذا لـم تدخل هؤلاء الأدباء العرب إلى جنّتك، فبئس التاريخ أنت. أفلـم يحن الوقت لندخلها نحن إلى قلوبنا وبيوتنا، ونمنحها شرف المواطنة العربيّة، ونقول لها بصوت واحد، من الخليج إلى المحيط: شكراً.. آن فيربيرن. تماماً، كما قالت لها الحاكم العام فى ولاية نيو ساوث ويلز السيدة مارى بشير، ابنة لبنان، فى رسالة حميمة، أطلعتنى عليها آن، لتخبرنى أن الدنيا لا تخلو من الكبار.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع