بقلم - طلعت إسماعيل
يولد الصحفى وعلى رأسه ريشة، نعم ريشة، لكنها ليست ريشة التمييز، أو التعالى على غيره من البشر، إنما هى سلاح للكلمة الحرة والرأى النزيه، المجرد عن الهوى، الذى حمله المجتمع مسئوليته، من أجل الدفاع عن مصالح الناس والكشف عن قبح الواقع وسوءاته، بهدف تجنب الانزلاق إلى هوة التهلكة، وضياع الأوطان، ووقوعها فى أتون الصراعات والفوضى.
الجندى المحترف لا يتخلى عن بندقيته، والصحفى الحق لا يتنازل عن ريشته، ودائما جاهز لإطلاق كلمات الصدق، وهى أقوى من الرصاص، ومن هنا قد يخاف البعض الصحفى، رغم أنه عين للحاكم والمحكوم، يكشف من خلالها مكامن الضعف، ونقاط القوة، معززا ثقة المجتمع فى قدراته على تخطى الصعاب، مع تنبيهه إلى ما يجب القيام به لإصلاح الخلل الذى قد يظهر هنا وهناك.
فى المعركة يواجه الجندى الرصاص، غير عابئ بالموت، فهو مستعد دائما للتضحية والفداء، وفى المقابل يتعرض الصحفى للقمع والتنكيل، والسجن والتعذيب، وصولا إلى الاختفاء القسرى، وحتى القتل بوسائل وحشية لا تخطر على بال، فقط لأن الصحفى أراد أن يعبر عن وجهة نظر مغايرة، ولعل ما تعرض له الصحفى السعودى جمال خاشقجى داخل قنصلية بلاده فى مدينة اسطنبول خير مثال.
خاشقجى الذى اعلنت السعودية مقتله داخل قنصليتها فى اسطنبول على يد مجموعة «متفلتة»، تصرفت من تلقاء نفسها، دفع ثمن الاختلاف فى الرأى فى أسوأ حالاته، وورط مقتله جهات لم تضع فى الحسبان أن الكلمة تبقى هى الأقوى، وأن سطوة الإعلام أكبر من أن تغرى البعض باللعب بعيدا عن العيون.
وخلال الاجتماع السنوى للرابطة العالمية للصحف وناشرى الاخبار الذى عقد فى العاصمة الألمانية برلين، الذى حضرته وسط مئات الصحفيين وصناع الإعلام الذين، جاءوا من أركان الأرض الأربعة، شكل اختفاء الصحفى السعودى، قبل الإعلان الرسمى عن مقتله، سؤالا عريضا، فما أن يعرف أى زميل أجنبى أننى من المنطقة العربية حتى ينهال على بالأسئلة عن خاشقجى وتداعيات اختفائه، ظنا منه أن الصحافة العربية على إطلاع أكبر بما يجرى.
هذا على صعيد الحوارات الجانبية بين الصحفيين بعضهم البعض، والذين لم يخفوا انزعاجهم مما حدث، باعتباره يمس الإعلام الدولى كما المحلى سواء بسواء، أما على صعيد الحدث الرسمى فقد شكلت قضية جمال خاشقجى، عنوانا رئيسيا فى الكلمة الافتتاحية التى ألقاها مايكل جولدان رئيس الرابطة العالمية للصحف وناشرى الأخبار.
جولدان وهو النائب السابق لمجلس إدارة صحيفة نيويورك تايمز، اعتبر ما جرى لخاشقجى يأتى ضمن العراقيل والعقبات والتحديات التى يتعرض لها الصحفيون فى العالم، وهو أمر غير مقبول من الجماعة الصحفية الدولية والمدافعين عن الحريات بشكل تام.
حاول البعض استغلال قضية خاشقجى، بل وحتى الرقص على جثته، بطريقة أو بأخرى، من منظور سياسى ضيق، غير أن الدرس الرئيسى أن الإعلام فى مجمله يشكل قوة ضغط هائلة، ولعل الدور الذى لعبته صحيفة «واشنطن بوست»، حيث كان الصحفى السعودى أحد كتابها، خير برهان على أن الصحافة لديها من القوة، والوسائل، ما يفضح الأكاذيب، فهى لم تكتفِ بنشر الأخبار عن القضية، بل استعانت بكل ما لديها من مهنية ومصداقية للوقوف على مصير كاتبها.
ستظل الصحافة الاحترافية، الأكثر مصداقية لدى الناس، فعلى الرغم مما لعبته مواقع التواصل الاجتماعى من دور فى متابعة قضية خاشقجى، لم تستطع الشائعات والجيوش الإلكترونية، منع جزء من الحقيقة حتى الآن، وهو مقتل الصحفى السعودى، وإن بقيت تفاصيل ما جرى، كما أعلن، قصة غير متماسكة حتى اليوم، ويعتريها النقص والتضليل، من هذا الطرف أو ذاك.
ما وقع لخاشقجى يفتح باب الاجتهاد أمام الصحفيين، وإن طال الزمن، للسعى وراء رواية أكثر إقناعا، وهو ما أوصى به مايكل جولدان فى الاجتماع السنوى للرابطة العالمية للصحف، على اعتبار أن «رواية القصص المعمقة مفتاح المشاركة مع الجمهور».
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع