بقلم - نصر محمد عارف
من طبيعة الفكر التغير، ومن خصائص التفكير التغيير، لان فكر الانسان تحدده معطيات الزمان والمكان والأحوال، فالفكر هو نتاج لعملية الفرك التى يقوم بها العقل، وهى عملية تفرك الفكرة مع خصائص الزمان، وتحولات المكان، وتغييرات أحوال البشر، لذلك يغير المفكرون أفكارهم، كلما تغيرت ظروف مجتمعاتهم، وتغير زمانهم، بل إن الأمم تغير أفكارها بتغير أحوالها، فى قرن واحد من الزمان تحولت اوروبا من الوضعية المنطقية إلى الحداثة والسلوكية ثم ما بعد الحداثة، ثم الدخول فى مرحلة التعددية الفلسفية أو ما يطلق تعدد المنظورات، كذلك تحولت روسيا من القيصرية الإقطاعية الى الشيوعية ثم ما بعد الشيوعية، وكذلك الصين ــ.الخ.
يحدث هذا فى كل بقاع الأرض، يتحول المفكرون والمثقفون من فكرة الى أخرى مع تحولات المجتمع وتغير ظروفه، وتشكلات القوى الدولية، وأوزانها النسبية، لان الفكرة ليست لها قدسية فى ذاتها، وانما هى وسيلة لهدف أعظم؛ قد يكون سعادة الإنسان أو تقدم المجتمع، أو رفعة أمة من الأمم وتحقق مجدها، واذا تم التمسك بالأفكار وتقديسها؛ هنا تتحول الأفكار الى أيديولوجية، أو عقيدة تشبه الدين، أو هى الدين نفسه، وهذا هو حالنا فى مصر خاصة، وكثير من الدول العربية والإسلامية، حيث يتم التمسك بالأفكار رغم أن الزمان قد تجاوزها، والمكان قد هجرها، والمجتمع لم يعد له علاقة بالأحوال التى كانت سائدة فيه عند ظهورها.
اذا نظرنا الى الطبقة المثقفة فى مجتمعاتنا نجد أن الغالب الأعم فيها مسجونون معرفيا فى زنازين أفكارهم، أو أفكار غيرهم التى تبنوها، غير قادرين على مغادرتها، أو نقدها، أو هجرها وتجاوزها دون نقد ــ قليلون جدا الذين تحولوا عن أفكارهم، أو جددوا ذواتهم فكريا، قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة فى دولة مثل مصر على مدى قرن كامل من الزمان، والباقى يعيشون حياة كاملة حبيسى منظومة فكرية، أو ركام أفكار لا يمثل نظما ولا منظومة؛ تحول فى عقولهم الى عقيدة، ثم حدث نوع من الاندماج بين ذواتهم وبين أفكارهم، وصار التنازل عن الأفكار أو تجاوزها يمثل تنازلا عن الذات، والتخلى عن الكرامة الشخصية.
أى إنسان عاقل يستحيل أن يقبل تبنى بشر تعلموا فى مختلف جامعات العالم، وتخصصوا فى العلوم بكل أنواعها لأفكار مدرس الخط العربى التى أنتجها وهو لم يصل للخامسة والعشرين من العمر، ويتمسكون بها بعد قرن تقريبا من صدور هذه الأفكار التى تم إنتاجها فى ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية ودولية تختلف بنسبة مائة فى المائة عن الواقع الحالى الذى نعيشه اليوم، خصوصاً ان هذه الافكار لم تنشئ مدرسة فكرية، وإنما تنشىء شخصا واحدا، وبعض الشراح الذين يمثلون ردة عن أفكاره أو انحرافا عن الواقع والتاريخ، يستحيل أن يقبل عاقل أن هناك جماعة اسمها الإخوان تعيش عالة على فكر شاب لم ينضج، ولم يكمل تعليمه العالى مهما ألقيت عليه الألقاب والصفات.
يستحيل أن يقبل عاقل أن هناك مفكرين فى مصر مازالوا حبيسى الافكار الاشتراكية التى ظهرت فى ثلاثينيات القرن الماضي، ومازالوا يرددون كلمات تروتسكي، ولينين وهنرى كوهين وغيرهم وكأنها صادرة اليوم، ويخوضون نفس المعارك التاريخية ضد التفكير الديني، والرجعية والظلامية ــ الخ، والعالم من حولهم تغير عدة مرات، بحيث صار هناك أحفاد لذلك الفكر الاشتراكى فى روسيا والصين وامريكا الجنوبية، ولكننا فى العالم العربى لم يزل اليسار عندنا كما كان فى ثلاثينيات القرن الماضى بنفس الأطروحات والأفكار والشعارات.
مستحيل أن يقبل عاقل أن هناك من لم يزل يحلم بقومية بسمارك فى العالم العربى، ويؤمن بالدولة العرقية أو القومية فى عصر تجاوزت فيه المصالح الاقتصادية كل الروابط والعلاقات الأولية كالعرق واللغة والدين، ولكننا فى العالم العربى لم نزل ننتج فكرا، يعيد تدوير أفكار أوروبا فى القرن التاسع عشر.
وفوق كل ذلك وقبل كل ذلك هناك من يؤمن أن الافكار التى ظهرت فى قرون المسلمين الأولى هى التى يجب أن تحكم واقعنا، وأننا لابد أن نحتكم لمفكرين ماتوا منذ ألف سنة تقريبا، وأن أفكارنا لابد أن نخضعها لموازينهم، فإن وافقت أفكارهم كانت صحيحة، وإلا فهى انحراف فى الدين والعقيدة، وهناك أيضا من ظل محبوسا فى صراع سياسى بين بعض الصحابة كان فيه المصيب وكان فيه غير ذلك، ومازال يطالب بحقوق من ظلم منذ ألف واربعمائة عام، وكان ذلك الصراع بالأمس.
حالة المسجونين معرفياً أصبحت طاغية فى واقعنا المصرى والعربي، بحيث أصبحت الطبقة المثقفة عائقاً أمام حدوث أى تغيير اجتماعى حقيقي؛ لأنها تعيد إنتاج التاريخ البعيد والقريب بكل صوره، وبكل أمراضه، وبكل مآسيه ــ المسجونون معرفيا يتمسكون بأفكارهم وآرائهم بغض النظر عن تكذيب الواقع لها، فهم يكذبون الواقع ويتجاهلون الحقائق من أجل تصديق أفكارهم، وإثبات صحتها، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة.
نقلا عن الاهرام القاهرية