منذ فجر التاريخ ومصر تقدم للعالم نور الحضارة واستنارة الروح، فأساس كل عمق بشرى نجد مصر قد وضعت أساس هذا العمق والغنى والحضارة. وفى المسيحية قدمت مصر للعالم ثلاث منارات عظيمة يدين بها أى مسيحى فى العالم كله.
أولاً علم اللاهوت وأساسيات الإيمان المسيحى، ففى مصر كانت أول أكاديمية أسسها القديس مرقس، وحين انزعج العالم بأفكار غريبة عن المسيحية كانت مصر هى صخرة الإيمان التى لجأ إليها كل المسيحيين ليتعلموا الإيمان الحقيقي، فكان القديس أثناسيوس والقديس كيرلس وكثير من آباء مصر الذين إلى الآن يتعلم العالم من أقوالهم.
والمنارة الثانية هى الشهداء فكنيسة مصر هى أكبر كنيسة قدمت شهداء، وكان أباطرة روما قد اقتنعوا بأنهم إذا أمكنهم القضاء على المسيحية فى مصر يستطيعون أن يمحوا المسيحية من العالم.
والمنارة الثالثة هى الرهبنة ونظام الحياة الديرية، ويقول المؤرخ يملؤها القيصرى «264-340م» إنه فى زمن القديس مرقس كانت فى غرب الإسكندرية جماعة تعيش حياة تملؤها القداسة والنسك معتزلين العالم، فى الوقت نفسه الذى كان فى الإسكندرية علماء المدرسة اللاهوتية الأولى. وقد استقبلت مصر المسيحية والتراث الفرعونى كان متأصلاً فى الوجدان فقد عاشوا آلاف السنين متأثرين بفكرة الخلود وصنعوا من المقابر مغارات بالصحراء أماكن استقبال الحياة الأخرى بعد تحنيط الجسد المائت، ورسموا على جدران هذه المقابر أو المغاير صورا للأبدية والدخول فى حياة الخلود مع أوزوريس. ثم بعد المسيحية اشتاقوا للحياة الأبدية على الأرض فكانت المغاير والتعبد فى البرارى هى حالة من حالات الموت عن العالم والبحث عن الخلود بالعبادة، إذ كان فى وجدانهم الحضارى فكرة الخلود فى المغاير التى شيدت كمقابر من الخارج ولكن فى الداخل هى انتظار حالة الخلود، فكانت الرهبنة فكرة مصرية خالصة.
وكلمة راهب مشتقة من الرهبة أى الذى يحيا فى خوف اللـه، ولكن الكلمة القبطية موناخوس أى المتوحد ومنها اشتقت المعنى فى كل اللغات مثل الإنجليزية monk، والفرنسية moine، والألمانية mönch أى الذى اعتزل العالم. وهذه الوحدة ليست هروباً من مسئوليات العالم أو حالة مرضية للاكتئاب والقنوط من الآخرين بل على العكس هم يبعدون عن صراعات المدينة والرئاسات والامتلاك.
فالرهبنة تقوم على التجرد الكامل من كل ما يُدخل الإنسان فى صراع، لذلك يقدم الراهب ثلاثة تعهدات أو نذور للرب. فينذر البتولية أو عدم الزواج وهذا ليس احتقاراً للمتزوجين ولكن لكى يستطيع أن يقدم كل مشاعره وحياته لحب الإله الذى لا يريد شيئاَ آخر معه.
والنذر الثانى هو الفقر الاختيارى فهو يذهب بذاته إلى اللـه متجرداً من أى قنية أو شيئاً يبتغيه أو يريده سوى اللـه. فالفقر الاختيارى هو التجرد من كل شيء طالباً غنى القدير، وأن يملأ كيانه بالغنى الذى لا يزول وهو رضا اللـه والسير فى الطريق نحوه.
وثالث نذر هو الطاعة للمرشدين فى الطريق فإنه يدخل إلى طريق الرهبنة متخلياً عن كل إرادة خاصة ليتعلم حياة جديدة فيتخلى طوعاً عن ذاته القديمة لكى تولد فيه ذات روحانية يسعى بها إلى الخلود. فالطاعة هنا مثل الجندية فى معسكرات الجيش يقدمها وهو يدرك أن هذا مهم للحرب.
فالرهبنة هى حالة خضوع لعمل اللـه الكامل دون تشويش من العالم أو صراعات الممتلكات أو البحث عن الذات والكبرياء. فالعيون المرفوعة نحو السماء والقلوب الصافية بلا ضغائن يملؤها الحب. والأرواح مشتعلة بمحبة الإله كما يقول القديس يوحنا سابا: أولئك الذين أشرقت عليهم بشعاع من حبك لم يحتملوا السكنى وسط الناس... وسعوا خلف الغنى بحبه لأنهم أدركوا أن فى قلبه لهم حبا كثيرا وفى محبته عزاء يفوق كل عزاء، ما صبروا أن يبقوا فى أفراح العالم لحظة ولما لم يجدوا عندهم شيئاً يقدمونه إليه قدموا ذواتهم بالحب.
وبدأت الرهبنة كمجتمعات متعبدة على يد الأنبا أنطونيوس «251م»، لذلك كل من سلك الرهبنة فى العالم مدين للقديس المصرى أنطونيوس برسم طريقة حياته الرهبانية. فقد تتلمذ على يديه كثير من النساك وبدأوا يبنون أديرة فى أماكن كثيرة فى كل صحارى مصر كما يصف القديس يوحنا ذهبى الفم بطريرك القسطنطينية فى نهاية القرن الرابع: إذا أوتيت أن تزور صحراء مصر فسوف ترى هذه الصحراء وقد صارت أفضل من فردوس. حيث يوجد عشرة آلاف خورس من الملائكة فى هيئة بشر وجماهير من الشهداء «الأحياء» وجماعات من العذارى حيث انسحقت كل طغيانات الشيطان.
وقد جذبت روحانية رهبنة مصر كثيرا من أولاد الملوك ومشاهير العالم ليعيشوا أو يتعلموا من رهبان مصر، فجاء مكسيموس ودوماديوس أولاد الإمبراطور الرومانى فالنتينيانوس «321-375م» تاركين القصر والعرش. وترهبت القديسة إيلارية ابنة الإمبراطور زينون «491م»، والقديس أرسانيوس «445م» الذى كان فيلسوفاً ومعلماً لأولاد الملوك فى روما.
وقد كتب البابا أثناسيوس قصة أنبا أنطونيوس ونشرت فى أوروبا فتأثر بها كثير من فلاسفة ومؤرخى الغرب فجاءوا إلى مصر وتتلمذوا فى أديرتها وعادوا إلى بلادهم لينشروا فكرة الرهبنة.
كل هذا المجد والنور لا يمكن أن يطفئه حادث هنا أو هناك، ولا يمكن أن نهيل التراب لأجل ضعفات البعض، فقد كانت أيضاً تعاليم الرهبنة تقوم على مبدأ الجهاد ضد الضعف البشري، فلا يظن أحد أن الرهبنة تعنى حياة الملائكة ولكن تعنى حياة المجاهدين ضد الخطية والضعف.
ويقول القديس يوحنا القصير: أخى أخطأ اليوم وغداً ربما يتوب، وقد أخطئ أنا غداً ولا أستطيع أن أتوب، لذلك الضعف البشرى كائن ولكن الحياة التى بها صلاة وتعب ودموع قادرة أن تعيد من يسقط فى الطريق إلى أحضان اللـه. فحين نرى نقطة سوداء فى الثوب الأبيض لا ننزعج لأن الثوب قابل للاغتسال من جديد، ومحبة اللـه قادرة أن تشملنا جميعاً لأنه يفتح أحضانه دائماً لكل من يطلبه ويعود إليه.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع