■ أسوأ ما شهدته الأسبوع الماضى على «نتفليكس Netflix» هو فيلم «الملاك»، الذى من أجله اشتركت فى هذا الموقع الجذاب. أفلام حديثة ومسلسلات وبرامج من كل أنحاء العالم. المستقبل لمثل هذه المواقع التى بدأت فى إنتاج أو تمويل أعمال خاصة بها، وليتنا نقلد مثل هذه الأفكار فى عالم الصحافة، وسأعود إلى ذلك فى مقال الأسبوع المقبل.
وأبدأ هنا بعدة ملاحظات على «الملاك» وأنا لست ناقداً فنيًا، وقد أغنانى عدد من الزملاء عن الحديث عن عشرات الأخطاء التاريخية والسياسية والفنية فى الفيلم.
هو بمقياس أفلام «السبكى» أقل من المتوسط، وبمقياس الأفلام العالمية ردىء جداً. ملاحظاتى هنا تنطلق من معلومات متناثرة وقراءات عن أشرف مروان، والإشكالية الخالدة حوله: هل كان جاسوسًا لإسرائيل كما يذهب كتاب «الملاك الذى أنقذ إسرائيل» والفيلم الذى نحن بصدده، أم كان وطنيًا شريفًا كما ذهب كثيرون إلى ذلك، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق حسنى مبارك؟!.
هناك قصة مهمة حدثت معى بشأن وفاة أشرف مروان الغامضة فى يونيو 2007، حينها ثار جدل حول نفس الإشكالية «جاسوس» أم «وطنى شريف». كانت الصحافة أكثر جرأة مما هى عليه الآن. الفضائيات اجتهدت، الكل أدلى بدلوه، قصص وحوارات من القاهرة ولندن، وعواصم غربية حول نفس القضية. حاولت يومها أن أصل إلى شخصية مختلفة لديها قول فصل فى هذا الأمر.
تحدثت هاتفيًا مع اللواء أمين هويدى، وزير الحربية الأسبق، رئيس المخابرات العامة مطلع السبعينيات، فصدمنى بعبارات موجزة قائلاً: «لا توجد ورقة واحدة فى (المخابرات العامة) بشأن مروان، أما وإن كان (مبارك) قد شهد له بـ(الوطنية) فيُسأل عن ذلك، وقد تكون لديه دلائل وقرائن على ذلك، فقد كان نائبًا للرئيس السادات لنحو ست سنوات، وقد تكون من مهامه الاطلاع على ملفات حساسة بينها ملف أشرف مروان».
■ لم تروِ هذه الكلمات الموجزة ظمئى للحقيقة. توصلت إلى هاتف اللواء فؤاد نصار، رئيس المخابرات العامة الأسبق. كان الرجل فى فترة نقاهة يقضيها فى شقة صغيرة على البحر فى سيدى كرير بعد عملية بالقلب.
ذهبت إليه صباحًا لأجرى حواراً معه استمر لسبع ساعات، نشرناه على خمس صفحات فى «المصرى اليوم»، لكن لم أنس السؤال الرئيسى الذى جئت من أجله- للقائد العظيم رحمه الله- وهو عن أشرف مروان. شرح بالتفصيل ما أوجزه «هويدى» من أن «المخابرات العامة» لا تعرف شيئًا عن أشرف مروان، ولا توجد أى مستندات بشأنه، وبالتالى لن أملك رأيًا فاصلاً، هل كان جاسوسًا أم عميلاً وطنيًا لبلده. لكنه شرح رأيه بالتفصيل فيما يتعلق بشهادة «مبارك» بوطنية مروان.
قال: «مبارك» رجل عسكرى، يعرف ما يقوله بهذا الشأن، وإن كان قد قالها ولو بشكل مقتضب، فإن لديه الدليل على ذلك.
■ سمعت لأول مرة فى هذا الحوار، من الرجل الذى كان السادات يثق فى قدراته العسكرية والمخابراتية والتنفيذية، أن السادات كان لديه ما يشبه وحدة استخبارات خاصة يديرها من الرئاسة، وأنها أحيانًا كانت تقوم بتكليفات خاصة دون أن تدرى «المخابرات العامة» عنها شيئًا. كان السادات مؤمنًا بتوزيع الأدوار. كان يتخير رجاله بعناية فائقة، وعندما يضع ثقته فى شخصيات بعينها كان يكلفهم بمهام خاصة، ويعودون إليه شخصيًا. فى مرحلة تالية، كان نائب الرئيس- حسنى مبارك بعد 1975- على صلة بالملفات الاستراتيجية التى يحركها السادات بنفسه، ولذلك فطالما أنه قد شهد لأشرف مروان فإن لديه ما يؤكد أنه كان وطنيًا عن حق.
■ عمل كثير من الأجهزة الوطنية خلال سنوات التحضير للحرب وحتى نهاية عصر السادات فى مهام متعلقة بجمع المعلومات. كان مديرو هذه الأجهزة لهم خط اتصال مفتوح بالرئاسة.
سألت الدكتور على السمان عن ذلك، وهو خير تجسيد لما أقصده فى هذا المجال. هو إعلامى شامل، عمل فى فرنسا، اقترب من مؤسسة الرئاسة، وعمل مسؤولاً عن الإعلام الخارجى فيها، وكُلف بمهام محددة فيما يتعلق بجمع المعلومات، وتنسيق المواعيد الخارجية للرئيس، واستضافة مشاهير السياسيين والمفكرين والفنانين فى هذه السنوات التى كنا نقاتل فيها التهميش والمقاطعة والدعايات الصهيونية، إلى جانب الحروب العسكرية على الجبهة. قال لى فى حوار ممتد داخل شقته الجميلة على نيل الجيزة: «كنا نرسل تقاريرنا إلى الرئيس.. والمسؤول عن هذه الخطوط المفتوحة كان نائب الرئيس».
مذكراته البديعة «أوراق عمرى» التى أهدانى نسخة منها مشفوعة بإهداء جميل، تحكى فى جزء منها تفاصيل أدوارهم «الوطنية» التى قاموا بها فى هذا الزمن المصيرى لمصر. سمعت شهادة متطابقة من المرحوم مرسى سعد الدين- الشقيق الأكبر للموسيقار الراحل بليغ حمدى، وأعظم من تولى «رئاسة الهيئة العامة للاستعلامات»- كانت خطوطهم مفتوحة مع السادات ونائبه، بل إن السادات استفاد من سعد الدين- الذى كان صديقًا له ولزوجته جيهان السادات- فى تعميق علاقات مصر مع دول آسيوية عديدة منها الفلبين. اللطيف فى أمر مرسى سعد الدين أنه كان مخلصًا لعمله ولدوره، لكنه لم يدرك أن الأمور تتبدل، وأن الزمن قد جاء بقيادات جديدة بفكر مختلف. فى هذه الأثناء تلقى أكبر «إسفين» من صديق عطف عليه وتوسط له مع السادات. كان صاحب الإسفين هو صفوت الشريف!
■ أعود لمروان وفيلمه، وأصل إلى رواية الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل فى كتابه «مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان». واللافت أن كثيرين، ومنهم صحفيون وكتاب، استمدوا معلوماتهم عن طبيعة علاقة مبارك بمروان مما قاله هيكل. وأنا هنا لا أنكر حرفية هيكل ودأبه على تحرى الحقيقة. لكن دائمًا ما تساورنى الشكوك بشأن ما كان يمارسه مع كثير من الزعماء والقادة. كانت شهاداته الكاملة عنهم لا تظهر إلا فى أعقاب رحيلهم. فعل ذلك مع السادات فى «خريف الغضب» ومع الملك الحسن والملك حسين والقذافى.
كتب هيكل عن هؤلاء الزعماء بعد رحيلهم فى المجلة الفصلية «وجهات نظر»، وقرأناها بحب وعمق وتصديق، وليس لدينا البديل. لكن أشك هنا فى مصداقية كل ما قاله أو ذهب إليه بذكاء دون أن يقطع به، من أن مروان كان جاسوسًا لإسرائيل.
■ رغم يقينى أن أشرف مروان كان يتعامل مع السادات مباشرة، وأنه لعب دور العميل المزدوج بمهارة، وساعد فى ترسيخ «الخداع الاستراتيجى» لإسرائيل وإقناع قادة أجهزتها الاستخباراتية بعدم جاهزية مصر للحرب، إلا أنه ينبغى أن نصدق ونحلل ما قاله اللواء عبدالسلام المحجوب للزميل عادل حمودة، من أنه تولى تدريب أشرف مروان على القيام بعمله مع الإسرائيليين، وأنه مستعد لمناظرة الضابط الإسرائيلى المسؤول عن التعامل مع مروان. هذه التصريحات عمرها عشر سنوات تقريبًا. كانت وقتها لدينا حرية نسبية فى الحصول على تصريحات ومعلومات من قيادات «الجهاز» السابقين رغمًا عن قيود القانون «100 مخابرات»، القيود والتعليمات أقوى. الصمت التام مفروض على الجميع.
وأتذكر أننى سألت «المحجوب» عن معلومات متناثرة عنده، عن خروج ياسر عرفات من الأردن فى أعقاب «أيلول الأسود» وأشرف مروان.. وقصص عديدة، فرد بالقول: «أثق فيك، وقرأت حوارك مع صديقى الفريق رفعت جبريل (الثعلب)، وسنتحدث فى الوقت المناسب»!. لم أشأ إحراج الرجل، فأنا أعرف القيود الموجودة، لكننا فى المقابل ينبغى أن نشجع هؤلاء القادة العظماء على الحديث، حتى نعطى النموذج فى العطاء للجيل الجديد، ونخرج بعضهم من حالة الإحباط العام، وبأننا بلا إنجازات أو بطولات. والأهم عند هذا الرجل أن لديه رواية فاصلة حول أشرف مروان، وهذا وقتها للظهور للنور.
■ ملحوظة أخيرة عن الفيلم «الردىء»، ولا أمتلك الإجابة عنها، وهى عبارة عن تساؤل: لماذا تم القفز فوق أحداث وشخصيات بعينها متواجدة بثراء فى الكتاب، وغابت تمامًا عن الفيلم.. شخصيات عربية بعينها، هل حدثت ضغوط أو تفاهمات أو صفقات مع صناع الفيلم؟!.. لا تعليق عندى.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع