بقلم - عماد الدين حسين
«فى القرن الـ ١٩ زارت بعثة يابانية مصر للاطلاع على تجربتها فى التقدم والحضارة. فى هذه الجولة أبدى اليابانيون إعجابهم بالعديد من مظاهر الرقى والتقدم والتحضر، مثل السكك الحديدية السريعة، والحمامات العامة النظيفة. وهناك صورة شاهدة على ذلك للساموراى اليابانى أمام أبو الهول عام ١٨٦٢».
الفقرة السابقة بأكملها اقتبستها من كلام الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، خلال استقباله قبل أيام للسفير اليابانى الجديد فى القاهرة، ماساكى نوكيه، فى إطار احتفال جامعة القاهرة بمرور ١٥٠ عاما على الإصلاحات والبعثة التى أرسلها الامبراطور اليابانى ميجى.
نسمع ونقرأ كثيرا عن هذه البعثات وانبهار اليابانيين وقتها بالتقدم فى مصر. لكن للموضوعية لم أكن أعرف عن حكاية إعجاب اليابانيين بالحمامات العامة عندنا، حتى قرأتها على لسان الدكتور محمد عثمان الخشت.
وبالتالى فسوف أعتمد على هذا الكلام، مدخلا للحديث عن الحمامات العامة فى مصر هذه الأيام. وهو موضوع يؤرقنى منذ سنوات، ولا أعرف متى سنتخلص من هذا البؤس المتمثل فى الحمامات العامة.
حال معظم هذه الحمامات يدعو إلى الخجل. لا أعرف هل جرب غالبية المسئولين فى مصر، زيارة الحمامات العامة أو دورات المياه الموجودة فى مؤسساتهم؟!.
أتمنى أن يبادر كل رئيس حى أو مدينة أو محافظ بزيارة عابرة للحمامات العامة الموجودة فى المكان الذى يديره، وأتمنى أن يتطور الامر بزيارة أى دورة مياه عامة موجودة فى أى شارع أو ميدان. أراهن أنه سيصاب بغثيان وقد يفقد الوعى، وربما يتطور الامر إلى سكتات قلبية أو دماغية.
الأمر لا يتوقف على القاهرة الكبرى فقط، ولكن منتشر فى غالبية المحافظات، وربما هو أسوأ. فى كل مرة أسافر إلى الصعيد بالسيارة، ويريد أطفالى الصغار دخول أى دورة مياه، يكون الأمر غير محتمل بالمرة، حتى دورات مياه المساجد الصغيرة ينطبق عليها نفس الأمر.
وصلت إلى قناعة نهائية أن مستوى دورة المياه العامة هى مقياس أساسى لدرجة النظافة العامة لأى شعب من الشعوب، دخلت عشرات دورات المياه فى العديد من البلدان من إفريقيا إلى آسيا مرورا بأوروبا وأمريكا. وفى العام قبل الماضى زرت اليابان ورأيت المستوى المتميز لدورات المياه العامة فى أكثر من مدينة ومنها طوكيو وكيوتو وهيروشيما. وأذكر أننى كتبت عنها فى هذا المكان، وأنها تدار بالكمبيوتر، خصوصا فى توزيع المياه الباردة أو الساخنة، ويتم تنظيفها بصورة آلية.
فى غالبية بلدان العالم، حتى ما كنا نعتبره ناميا أو متخلفا، لم أجد مثل ما هو موجود عندنا فى مصر للأسف.
لا أعرف كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من التبلد وغياب الإحساس، وقبول التعايش مع هذه القذارة؟.
للأسف أيضا فهذه الحالة موجودة عندنا منذ عشرات السنوات. هى ليست وليدة اليوم أو حتى الأمس القريب لكنها ربما بدأت مع انهيار المحليات فى النصف الثانى من السبعينيات، وما تلاها من انتشار فيروس العشوائية القاتل فى كل مكان خصوصا القاهرة الكبرى، هذه العشوائية كانت نتيجة أساسية للفساد العام الذى انتشر وقتها. فعندما يتقاضى رئيس حى ملايين الجنيهات للسماح ببناء عمارة من دون ترخيص، فهو لن يكون حريصا على التأكد من وجود دورة مياه نظيفة، أو حتى جراج حقيقى فى المكان الذى يديره.
انشغلنا كثيرا ببناء المساجد والكنائس العشوائية، ودون ترخيص وأهملنا بناء ونظافة الجراجات والحمامات العامة والمستشفيات النظيفة. فمتى نتعافى من هذا الفيروس اللعين؟!!.
الفيروس الحقيقى ضرب منظومة القيم الأساسية لغالبية المصريين، ومع الفساد وغياب المساءلة والمحاسبة وشيوع ثقافة أهل الثقة على حساب أهل الخبرة، ومع انهيار التعليم كان من الطبيعى أن نصل إلى هذه النتيجة، ونتعايش معها ولا تمثل لمعظمنا أى مشكلة.
أحد مظاهر الفساد التى نراها كل يوم هو الشباب الذى يعمل فى الحمامات العامة، لم تعد وظيفته هى تنظيف الحمام بل حمل المناديل لكى يسلمها للزبون، حتى يحصل على الإكرامية. هذا أمر لا يحدث إلا فى مصر ويستحق تعليقا لاحقا إن شاء الله.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع