بقلم - عماد الدين حسين
كل مطبوعات دار الصياد اللبنانية توقفت عن الصدور يوم الاثنين قبل الماضى، بسبب الأزمة المالية.
هذه الدار العريقة ــ التى تأسست عام ١٩٤٣ــ أعلنت فى بيان نشرته صحيفتها الرئيسية الأنوار فى صفحتها الأولى يوم الاثنين قبل الماضى أن مطبوعاتها التسع، ستتوقف عن الصدور وقالت عن أسباب ذلك «كل من يتابع أوضاع الصحف الحرة والمستقلة يعلمها». أى الأزمة المالية.
هذه الدار ــ التى أسسها سعيد فريحة عام ١٩٤٢ ــ كانت تصدر إضافة إلى جريدة الأنوار مطبوعات كثيرة منها مجلة الشبكة الفنية الشهيرة.
عندما قرأت بيان دار الصياد انقبض قلبى، لأننى أعلم تماما ماذا يعنى توقف صحيفة أو أى وسيلة إعلام.
أول صحيفة عملت بها بعد التخرج عام ١٩٨٦، كانت «صوت العرب» أغلقتها الحكومة عام ١٩٨٨، والجريدة الثانية كانت «مصر الفتاة» وصدرت عام ١٩٩٠، وأغلقتها الحكومة عام ١٩٩٢.
فى الحالتين جربت معنى إغلاق الصحيفة «والتشرد المهنى والمرمطة فى مكاتب الصحف العربية وصحف بير السلم».
وقتها كان الإغلاق لأسباب سياسية بحتة. الآن الأمر زاد تعقيدا، ولم تعد الحكومات العربية فى حاجة لإغلاق الصحف لهذه الأسباب، بل يكفى أن تتركها كى تموت من تلقاء نفسها بسبب الأزمة المالية المتفاقمة.
التجربة اللبنانية فى الصحافة متميزة وأحيانا رائدة، لكن أحد الثغرات الأساسية أن العديد من الصحف البنانية كانت تقوم وتعيش وتنتعش على الدعم العربى الخارجى، وهو دعم لأسباب سياسية بحتة.
الحروب الأهلية والطائفية والمذهبية والعرقية والتدخلات الاجنبية، أغلقت صنبور التمويل العربى خصوصا بعد الأزمة السورية. هذه التطورات قادت ضمن أسباب أخرى إلى أزمة اقتصادية خانقة، دفعت الصحافة ثمنها، بسبب قلة الإعلانات الموجهة للصحافة عموما وللصحافة الورقية خصوصا، متزامنا مع انصراف القراء عنها، واندفاعهم نحو الصحافة الرقمية.
نتائج وتجليات هذه الأزمة كانت أكثر وضوحا فى لبنان. فى نهاية ٢٠١٦ توقفت صحيفة «السفير» بعد ٤٢ عاما من تأسيسها. وقبل أربعة شهور أغلق مكتب جريدة «الحياة» الورقية أبوابه، بعد ٧ عقود من العمل حيث تأسست عام 1946.
لم يبق فى الميدان من الصحف التاريخية إلا «النهار» التى تعانى بدورها من أزمات مالية عديدة. ومعها فى نفس المضمار غالبية الصحف ومحطات التليفزيون اللبنانية بما فيها صحف مملوكة لرئيس الوزراء الحريرى.
مرة أخرى هذه الأزمة ليست لبنانية فقط، بل عربية بالأساس ولها تجليات عالمية كثيرة.
بالطبع الوضع يختلف بيننا وبين بقية العالم. لدينا أزمة شاملة فى كل وسائل الإعلام، فى حين أن الأزمة فى الخارج تشمل فقط بعض الصحف الورقية فقط التى تعرضت بعضها للإغلاق، لكن فى أماكن أخرى تمكنت صحف من النجاح والازدهار، رغم المواجهة الشرسة من قبل الإعلام الرقمى. دول مثل الهند واليابان وألمانيا لديها تجارب ناجحة جدا فى الصحافة الورقية، والسبب الجوهرى هو المحتوى المختلف، الذى لا يمكن أن يقدمه الإعلام الرقمى. تلك هى وصفة النجاح، وللأسف فهى غير قابلة للتكرار فى الصحافة العربية هذه الأيام، لأسباب جوهرية متنوعة منها أن صحفنا معظمها سياسية ومرتبطة بالحكومات، أو واقعة تحت بطشها.
كتبت كثيرا فى هذا المكان عن أزمة الصحافة المصرية، وأكرر اليوم ضرورة أن تلتفت الحكومة إلى هذا الأمر بصورة جادة. سقوط هذه الصحف ــ لا قدر الله ــ ستدفع ثمنه مصر بأكملها، لأن هذه الصحافة ــ رغم كل مشاكلها ــ هى أحد أوجه القوة الناعمة لمصر.
قد تعتقد الحكومة أن سقوط الصحافة سيريحها من «الصداع ووجع الدماغ»، وهى تنسى أنها حتى بمنطق المصلحة تحتاج إلى وسائل إعلام قوية ومؤثرة، حتى تستطيع أن تصل إلى الناس، وتنقل لهم وجهة نظر الحكومة والنظام. وسائل الإعلام الناجحة لا تتواجد أو تتأسس فى غمضة عين أو كبسة زر أو قرار إدارى. هى تحتاج إلى ثقة ومصداقية وتجارب وتراكم طويل. علينا معالجة أى أوضاع خاطئة فى الصحافة والإعلام العربى، لكن لا تذبحوا التجربة بأكملها، لأن الوطن هو الذى سيدفع الثمن لاحقا.
بعد ما حدث فى لبنان أسأل نفسى كل يوم: يا ترى الدور على أى صحيفة فى وطننا العربى الكبير وغير السعيد؟!!!.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع