بقلم - د. طه عبد العليم
كان تأسيس بنك مصر فى أعقاب ثورة 1919- كأول بنك تجارى مصرى رأسمالا وادارة- نقطة انطلاق محاولة التصنيع الرأسمالى المستقل بقيادة طلعت حرب؛ بتجميعه للمدخرات الوطنية وتوظيفها فى التصنيع. فنهض- كما فى كل مكان- بالدور الذى لعبته البنوك المماثلة فى المراحل المبكرة للتصنيع بالبلدان المتقدمة. وقد أقام بنك مصر شركاته الصناعية ضد إرادة الاستعمار البريطانى المعادى لتصنيع مصر، وخاض منافسة ضارية مع رأس المال الأجنبى المسيطر على نشاط الأعمال الحديث بمصر. لكن بنك مصر حتى ثورة 1952 لم يتمكن من تجاوز قيود استكمال التصنيع: والتبعية الاقتصادية لمصر المستعمرة، والبيئة شبه الاقطاعية المقيدة للتصنيع، والتكوين المتناقض للطبقة الرأسمالية المصرية الكبيرة.
وأسجل أولا، أن المأثرة الأهم فى دور بنك مصر فى تاريخ تصنيع مصر كانت مبادرته بتأسيس الصناعة الحديثة فى فرعها القائد وهو صناعة غزل ونسج القطن. لم يعرف تصنيع هذا المحصول الزراعى الرئيسى حتى عام 1927 إلا مصنع واحد كبير اعتمد على الآلات الحديثة، لم ينقذه من التصفية سوى تضاعف الطلب والحماية الاضطرارية إبان الحرب العالمية الأولي. وقد أشار طلعت حرب- مؤسس البنك وشركاته الصناعية- فى حفل تأسيسه إلى أن فى مصر أموالا كثيرة معطلة ومخزنة، وفى هذا ضياع للفائدة التى تعود على أصحابها وعلى البلاد، وأن الودائع والمدخرات يستثمر معظمها خارج البلاد؛ دون أن تسهم فى تطوير الاقتصاد وزيادة الثروة المصرية، وأن المصريين لم ينوعوا طرق استثمارهم، وذهبت أموالهم فى شراء الأرض وضاعت هباء فى رفع أسعارها. وثانيا، أن رأسمال بنك مصر واحتياطيه بلغ نحو 26% من إجمالى رؤوس أموال واحتياطيات البنوك التجارية فى مصر، ومثلت الودائع لديه ما زاد على 24% من إجمالى ودائع البنوك التجارية بمصر، فى عام 1951. ويشير تقرير مجلس إدارة البنك لعام 1929، إلى ارتباط نشاطه وشركاته بتمويل ونقل وتجارة وتصدير وحلج القطن، وأنه من أجل استهلاكه محليا أنشأ شركة مصر لغزل ونسج القطن فى المحلة الكبري. وقد بلغ رأسمال شركات بنك مصر الصناعية، التى أسسها حوالى 45% من رأسمال جميع الشركات الصناعية المساهمة الجديدة، بما فيها تلك التى أسسها وسيطر عليها رأسمال أجنبي، بين عامى 1922 و 1938. وأنتجت شركات بنك مصر الصناعية أكثر من نصف إجمالى منتجات الغزل والنسيج للصناعة المصنعية فى مصر فى عام 1938.
وثالثا، أن بنك مصر وحتى يمكنها مواجهة منافسة الواردات أقام مصانع كبيرة، وكانت التكلفة عالية بسبب الأثمان المرتفعة للآلات والمعدات فى زمن إقامتها المتأخر؛ مقارنة بالمصانع المماثلة لها بالبلدان الرأسمالية فى زمن التصنيع المبكر. ومقارنة بجميع شركاته نالت أكبر استثماراته شركتا المحلة الكبرى وكفر الدوار لغزل ونسج القطن، وحوالى 45% من اجمالى رؤوس الأموال الابتدائية، وتلقت أكبر قروضه، حتى بلغت نحو ضعف رأسمالها المدفوع فى عام 1939، وحوالى 49% من اجمالى رؤوس أموالها المدفوعة حتى عام 1949. وبفضل توظيف البنك الودائع لديه فى التصنيع امتلكت الشركتان حوالى 62% من إجمالى المغازل الآلية فى مصر فى عام 1946، وعمل فى مصانع بنك مصر حوالي20% من إجمالى العاملين فى المصانع التى تستخدم 10 عمال فأكثر فى عام 1948، وسيطر البنك على 35% من إجمالى رؤوس أموال مؤسسات الغزل والنسيج فى مصر فى عام 1949.
ورابعا، أن بنك مصر قد بدأ نشاطاته بالعمليات التجارية المالية لتوفير الأموال اللازمة للاستثمار الصناعي. لكنه بعد تعرض البنك لأزمته المالية الشديدة فى عام 1939، أصدرت الدولة القانون رقم 40 لعام 1941- المسمى بقانون دعم بنك مصر- الذى ألزمه بعدم إنشاء شركات صناعية جديدة، وفرض عليه ألا يتوسع فى الشركات القائمة وتصفية شركاته الخاسرة، وتضيف ودائعه فى الأوراق المالية الحكومية والأجنبية على حساب استثماراته الصناعية الانتاجية. وهكذا، فان بنك مصر، الذى أسس أربع شركات صناعية فى عام 1938، ورغم ما حققه وشركاته الصناعية وغيرها من أرباح هائلة فى فترة الحرب العالمية الثانية، لم يرفع رأسمال شركاته، ولم يشترك فى النشاط التأسيسى الواسع بصناعة الغزل والنسيج بعد الحرب، ولم يتمكن حتى عام 1953 إلا بالاشتراك فى تأسيس شركة مصر للحرير الصناعى وبحصة تقل عن 10% من رأس المال بالمشاركة مع شركة أوسكار كوهورن الأمريكية فى عام 1946. وخامسا، أن بنك مصر قد بدأ تأسيسه لشركاته معتمدا على رؤوس الأموال المصرية وحدها فى العشرينيات، وحين دخل فى شراكة مع رأس المال الأجنبى فى أوائل الثلاثينيات اشترط أن تكون أغلبية رأس المال والادارة العليا للمصريين، ولم يقبل بالمشاركة فى شركاته للغزل والنسيج. لكنه فى نهاية الثلاثينيات أجبر على قبول ما رفضه من قبل، تحت ضغط الحكومة البريطانية بعد رفع التعريفة الجمركية المصرية، وتحت تهديد الاحتكارات البريطانية بإقامة مصانع للغزل والنسيج فى مصر، وأيضا بدافع الاحتياجات التكنولوجية الضرورية للارتقاء بالتصنيع. وهكذا عقد البنك اتفاقا وبحصة لم تتعد 20% من رأس مال شركة مصر صباغى البيضا مع اتحاد صباغى برادفورد، وقبل بأن يقتصر إنتاج شركته الكبرى بالمحلة على الغزل والنسيج السميك الأقل ربحية، وأن تقوم بإنتاج الغزل والنسيج الرفيع الأعلى ربحية الشركة المختلطة الجديدة فى كفر الدوار، وأن تحتكر مصر صباغى البيضا تجهيز وتبييض وصباغة إنتاج الشركتين. لكن هذه المشاركة كانت أفضل يقينا من حيازة أسهم محدودة فى رأسمال الشركات الأجنبية قبل تأسيس بنك مصر، بل وتمكن من شراء الحصة البريطانية عقب الحرب العالمية الثانية. وأخيرا، إن قانون دعم بنك مصر قد أنقذ رؤوس أموال الرأسمالية المندمجة بجهاز الدولة، وحمى البنك وشركاته من الافلاس؛ لكن شروطه لخصت الدور المزدوج للدولة- الداعم والمقيد- للصناعة الوطنية الناشئة. فقد سحبت الحكومة صندوق التوفير الحكومى ودائعهما من البنك، ورفض البنك الأهلى المصرى (الانجليزى رأسمالا وادارة، وبنك البلاد المركزى فعليا آنذاك) طلب بنك مصر بإقراضه رغم تقديمه أقوى الضمانات، انسجاما مع سياسته المناوئة لتصنيع مصر. وبين عامى الأزمة والدعم تعاقبت سبع حكومات للأقلية صنعها الاستعمار والقصر، وهيمن مالكو أكثر من مائة فدان على مجلسى النواب والشيوخ!.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع