توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصوت الواهن

  مصر اليوم -

الصوت الواهن

بقلم : نيفين مسعد

 أغلق صاحبنا خط التليفون وارتسمت علي وجهه ابتسامة خجولة، هز رأسه بالإيجاب عدة مرات علامة علي الرضا وانتحي ركنا في شرفته الصغيرة وراح يدخن سيجارته. ما هذا ؟ ألم يمنعك طبيبك يا فلان من التدخين منعا باتا قاطعا ؟ ألم يقل لك إذا عدت للتدخين فلا شأن لي بك ولا تسألني عن مصير عمليتك الجراحية؟ نعم هذا ما قاله الطبيب، ومع ذلك راح صاحبنا يستميل ضميره بالقول إن هذه مناسبة سعيدة تستحق الاحتفال بها، وهو لا يشعر بطعم الاحتفال إلا حين يشعل سيجارة وتروح حلقات الدخان تتمايل أمام ناظره وكأنها مجموعة من الراقصين المهرة يتخاصرون في رقصة ڤالس لا أبدع منها ولا أروع . قبل ذلك كان صاحبنا يجيد التعبير عن سعادته بأشكال مختلفة ذهبت جميعا ولم تبق إلا السيجارة ، كان يلجأ إلي لعب النرد مع شلته من دفعة ١٩٧٥ ويكايدهم بمغامراته النسائية ويعيد ويزيد فيها ثم لم يعد يلعب، كان يمارس السباحة في نادي القاهرة ويتمني أن يكون عضوا في فريق النادي فلم يعد يعبأ بالأمر، كان يتلذذ بطعم آيس كريم (الكلو كلو) الذي يطلقون عليه الآن اسم ( كونو) فصار نادرا ما يشتاق لمذاقه، تغير مزاجه وضعفت شهيته لكن هذه اللفافة اللعينة ظلت علي حالها وكأنها محشوة بذرات السعادة، فلا هو زهد فيها ولا هي ملت أنامله.

فضفض يا أخي.. تكلم .. قل ما الذي أبهجك في هذا الصباح العادي جدا ؟ لم يتردد صاحبنا ولا حاول أن يراوغ.. صارح نفسه في بساطة كما هي عادته بأن ما أسعده هو أن للمرة الأولي من سنين أنهي الصيدلي الذي يتعامل معه مكالمته قائلا: من فضلك سلٌم لي علي الحاجة. غريب هو أمرك يا رجل فما وجه السعادة في أن يُحملك أحدهم سلاما لفلانة أو علانة ؟ .. إذا عُرِف السبب بطُل العجب. في واقع الأمر لم تكن هذه الحاجة التي كان يقصدها الصيدلي غيره هو نفسه، نعم لا توجد هناك حاجة يسلم عليها ولا يحزنون فصاحبنا مطلق بعد زيجة قصيرة لم يعد لتكرارها أبدا، وأخته لا تعرف هذه الصيدلية ولم تتعامل مع صاحبها من قبل، ومعاونته لا ترد علي التليفون الأرضي أبدا وتعتبر ذلك خارج نطاق مسؤولياتها حتي لو رن جرس التليفون في اليوم الواحد مائة مرة. هو إذن الحاجة التي يقصدها الصيدلي، والحاجة هو، فكيف كان ذلك ؟

بدأت حكايته عندما اكتشف لأول مرة إصابته بمرض القلب، في الحقيقة لم تكن هذه النتيجة مفاجئة في حالته هو بالذات، فهو مدخن شره وفاقد القدرة علي ضبط انفعالاته تماما، حاول ترويض مشاعره وفشل ثم قرر أن يترك نفسه علي سجيتها. كان مرضه بالقلب إذن أمرا غير مستبعد لكن الحقائق الصعبة عادة ما تفاجئنا حتي لو كنا نتوقعها. بالتدريج استوعب صاحبنا الصدمة وتقمص وضع مريض القلب، دخل في شخصيته وتصرف كما يفعل أي ممثل بارع، إذا صعد الدرج صعده كسولا متباطئا، وإذا تنهد أخرج زفيره متكسرا متقطعا، قلل جهده إلي الحد الأدنى، وضغط سفرياته المتكررة ما أمكن، و..... لم يعد يتحدث إلا بصوت خفيض. اختلط لديه الواقع بالوهم فلم يعودا يتمايزان، وفي أول مرة التقط الهاتف ليطلب دواء السيولة أتاه الرد المهذب من الصيدلي: سيصِلُكِ الدواء في خلال نصف ساعة يا .. حاجة! نزل عليه لقب حاجة كالصاعقة ولم يغمض له جفن في تلك الليلة، وحيثما قلٌب رأسه علي وسادته صادفته قطرات ندية . أوجعه بشدة أن صوته بلغ من الوهن حدا جعل الصيدلي يظن أن مُحَدِثه امرأة، لم يستفزه اللقب في حد ذاته رغم أنه لا يحبذ مناداة الناس بعباداتهم الدينية، ومع ذلك تألم إلي درجة لم يقو معها علي تصحيح خطأ الصيدلي لا في تلك المرة ولا في كل المرات التي تلتها. أتراه تألم لأنه شعر بالعَجَز وهو الذي كان يحلم بأن يكون ذات يوم سباحا أولمبيا لا يُشّقُ له غبار؟ أم تراه تألم لأنه أحس بإهانة لرجولته عندما اعتبره الصيدلي امرأة؟ يملك من الشجاعة ما يجعله يعترف بأنه غضب لأنه أدرك أنه شاخ ووهن، وغضب أيضا لأنه تربي علي ثقافة رديئة جدا تجعل الأنوثة صفة للمعايرة .

في انتظار العملية الجراحية أغمض صاحبنا عينيه علي الكمامة ذات اللون السماوي تخفي نصف وجه الطبيب، استسلم لشعور بالخدر اللذيذ بينما يسري السائل العجيب في وريده، انقطع اتصاله بما حوله وراح في دنيا غير الدنيا. كانت عقارب الساعة في آخر مرة رآها تقف عند الواحدة ظهرا بالضبط، حتي إذا انتبه من غفوته ونظر إليها مجددا أدرك أنه قضي ثلاث ساعات كاملة في برزخه، أحاطت به جلبة وتمنيات طيبة ووجوه يعرفها وأخري لا يعرفها ، وحمد الله علي أن مازال في العمر بقية .

توالت أيام كثيرة وصباحات عديدة انتقل خلالها من المستشفى للمنزل ، ترك الفراش إلي الشرفة، خلع بيچامته وارتدي ملابس الرياضة، تمشي عشر دقائق فعشرين دقيقة فنصف ساعة، أدخل بالتدريج بعض الدسم إلي طعامه، وعاد كما كان تقريبا. وفي هذا الصباح اللطيف اعتزم أمرا وراهن نفسه عليه. ضغط علي رقم الصيدلية المسجل لديه، تنحنح ليطرد من صوته آثار الوهن، طلب علبة من دواء السيولة كالمعتاد وراح ينتظر الرد. لم يتعرف الصيدلي علي صوت محدثه وقد أتاه قويا واثقا، هو بالتأكيد ليس صوت الحاجة المسنة التي تطلب الدواء من نفس هذا الرقم ولعل الطالب هو زوجها أو ابنها، وجد الصيدلي من باب اللياقة أن يحيي زبونته القديمة ويحتفي بها فطلب من محدثه المجهول أن يبلغ الحاجة السلام .

هكذا كسب صاحبنا الرهان فلم يتعامل معه الصيدلي باعتباره الست الحاجة. كان صاحبنا يعلم بالتأكيد أنه يسترد عافيته رويدا رويدا، ومع ذلك فإنه لم يشأ اختبار نفسه والرهان عليها إلا عندما اطمأن تماما إلي أنه صح وبرئ وشفي من إعيائه. تململ في جلسته بالشرفة وأشعل سيجارة أخيرة، راح يدندن بمزاج عال أغنيته المفضلة "كليوباترا" واندمج معها تماما، علا صوته، علا أكثر، تحرج من أن يزعج صوته الجيران وقت قيلولتهم، هز رأسه في مزيج من الرضا والاستنكار قائلا: ما يصحش كده. دلف إلي داخل منزله واستمر في الغناء.

نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 13:43 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

دولة في غزة كُبرى؟

GMT 11:56 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الوطن والشعب.. وأنا

GMT 08:20 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

درع العرب (1) نواة القوة المشتركة

GMT 09:54 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

مسقط... رؤية مختلفة

GMT 08:32 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

عودة الوحش

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصوت الواهن الصوت الواهن



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية

GMT 12:20 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

طلائع الجيش يبحث عن مهاجم سوبر فى دوري المظاليم

GMT 15:09 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

فان ديك يحصد لقب أفضل لاعب بنهائي دوري الأبطال

GMT 15:15 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مشروع "كلمة" للترجمة يصدر "كوكب في حصاة"

GMT 20:20 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

صدور رواية "الطفلة سوريا" لعز الدين الدوماني
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon