بقلم - أحمد يوسف أحمد
قلبى مع الوفد الأمنى المصرى الذى يبذل جهوداً مضنية على الأرض الفلسطينية من خلال دبلوماسية مكوكية من أجل إتمام المصالحة الفلسطينية التى كان لمصر اليد الطولى فى التوصل إليها، ولو كان الأمر متوقفاً على معرفة أعضاء الوفد بأبعاد ملف المصالحة وتفاصيله الدقيقة لكللت جهودهم بالنجاح منذ زمن طويل فقد تراكمت لدى المخابرات المصرية معرفة شاملة بالملف الفلسطينى إجمالاً بكل أبعاده وخبرة عميقة بتفاصيله الدقيقة على نحو مكن رجالها دوماً من التوصل إلى حلول لأعقد المشكلات فى هذا الملف نابعة من رؤية سليمة وحس قومى أصيل وحرص تام على المصلحة الوطنية المصرية، لكن الواقع الأليم الذى يفرض نفسه على الجهود المخلصة التى يبذلها هؤلاء الرجال من أجل إتمام المصالحة لا يتمثل فحسب فى تعقد ملفاتها وهى بالغة التعقيد بالفعل وإنما ثمة ما هو أخطر وهو أن هذا الواقع قد يكون نابعاً أساساً من مصالح ترسخت لعناصر وفئات محددة تستفيد من الوضع الراهن وتحقق فى ظله مكاسب طائلة وهى من ثم ليست صاحبة مصلحة فى تجسيد المصالحة على أرض الواقع ناهيك بعناصر أخرى تنأى بنفسها عن تحمل المسئولية، ولذلك فإن السؤال الذى يجب أن يُطرح بصراحة هو: هل يريد الطرفان الأساسيان فى الانقسام الفلسطينى المصالحة فعلاً أم أن الشعارات شيء والمصالح شيء آخر؟ وإذا رجحت المصالح فى الإجابة الأمينة عن هذا السؤال فهى كارثة لأن معنى ذلك أن العقبات التى توضع فى طريق الجهود المصرية لن تنتهى بسبب هذه المصالح.
يبدو إنجاز المصالحة الفلسطينية على أرض الواقع شرطاً لا غنى عنه لإنقاذ مستقبل القضية الفلسطينية، ذلك أنه لا استراتيجية فلسطينية صالحة للنضال من أجل استخلاص حقوق الشعب الفلسطينى دون وحدة وطنية، ولا بديل أمام الفلسطينيين سوى أن يمسكوا بقضيتهم فى أيديهم فقد انتهى ذلك الزمان الذى كانت الحاضنة العربية تتحمل فيه مسئولية القضية، وقد يكون ذلك قد دُشن فى قمة الرباط 1974 التى اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، فبينما رسخ هذا القرار الكيان الفلسطينى اتُخذ لاحقاً ذريعة لتنصل كل من يريد من الأطراف العربية من مسئوليته تجاه فلسطين فلها «منظمة تحميها»، وعلى أى حال فقد تكفل تدهور الأوضاع العربية لاحقاً بتبديد فكرة الظهير العربى لفلسطين، وقد تم هذا التدهور كما هو معروف عبر الانقسام المصرى - العربى فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى بسبب السلام مع إسرائيل ثم الانقسام العربى - العربى بسبب الغزو العراقى للكويت 1990 ثم التداعيات الخطيرة للغزو الأمريكى للعراق 2003 والتى لم تقتصر عليه وحده وإنما امتدت لتشمل النظام العربى برمته وأخيراً وليس (آخراً) تداعيات ما عُرف بالربيع العربى وانتهى به الحال إلى ما نشهده حالياً من صراعات دامية وتفتت مخيف واختراق خارجى غير مسبوق، والحقيقة أنه لولا ما تقوم به مصر حالياً من جهود مخلصة لتحقيق المصالحة الفلسطينية لما أمكن الحديث عن ظهير عربى أصلاً، ولذلك فقد كان قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كاشفاً فى هذا الصدد, فقد أطاح الرجل بأخطر ملفات القضية وأقدسها خارج حلبة المفاوضات فلم يتلق سوى عبارات الإدانة المنضبطة التى لن تغير من الأمر شيئاً، وعليه لم يكن ثمة مخرج من هذا المأزق سوى أن يُمسك الفلسطينيون بقضيتهم فى أيديهم ولديهم من خبرات التحرر الوطنى العالمية تنويعة كاملة من أساليب النضال الناجحة وأدواته بما فيها أدوات سلمية مطلقة كما فعل غاندى فى الهند حتى لا يتحجج أحد بأن الكفاح المسلح بات مستحيلاً.
لكن الجانب الفلسطينى الرسمى اكتفى بإعلان أن الدور الأمريكى فى عملية التسوية قد انتهى لتحيزه وهذا جيد، وأضاف بأن المطلوب آلية جديدة لهذه العملية وهذا عبث لأن القوة الوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل هى الولايات المتحدة وحتى لو افترضنا أن قوى دولية كالاتحاد الأوروبى أو روسيا أو الصين راغبة فى أن تقوم بدور فهى بالتأكيد غير قادرة عليه، ولأنها تعلم ذلك فلن تُقدم على الاضطلاع به أصلاً، وهو عبث أيضاً لأنه حتى فى ظل «الرعاية» الأمريكية للتسوية لم يتحقق سوى الوهم عبر أكثر من ربع قرن منذ أوسلو 1993، فهل مازلنا نستعذب الوهم والإحباط؟ المخرج الوحيد إذن هو نقلة نوعية فى النضال الفلسطينى وهذه لن تتحقق دون مصالحة وطنية، وهى المصالحة التى رأينا تعثرها حتى الآن ليس فقط بسبب تعقد ملفاتها وإنما بسبب وجود مصالح راسخة لأطراف فلسطينية فى استمرار الوضع الراهن ولتذهب القضية الوطنية والشعب الفلسطينى إلى الجحيم، فهل تستطيع الفصائل الوطنية الفلسطينية غير المتورطة فى الانقسام أو الملوثة بمصالح ذاتية أن تلقى بأحجار فى المياه الراكدة استناداً إلى رأى عام فلسطينى ضج كثيراً بما تفعله قوى يُفترض أنها مسئولة عنه؟ وقد يقول قائل ما لنا وهذه التعقيدات كلها؟ ويجب أن يكون واضحاً أن أولئك الرجال الذين يعملون بكل الإخلاص فى الملف الفلسطينى إنما يوفرون الحماية فى الوقت نفسه للأمن المصري، وقد يكون هذا السياق مناسباً لتعريف من لا يعرف أو لتذكير من نسى أن فكرة دولة فلسطينية فى غزة تقتطع من سيناء المصرية مازالت تراود البعض فى غزة وخارجها، وهى فكرة رغم استحالتها تُظهر أهمية حلحلة الملف الفلسطينى للأمن المصري، ولا تستطيع السياسة المصرية لهذه الاعتبارات على الأقل أن ترفع يدها عن الملف الفلسطينى لكنها قد تكون بحاجة لإعادة نظر فى الأساليب المستخدمة فى إدارته وهو ما يحتاج حواراً جاداً ومخلصاً وعميقاً.
نقلا عن الاهرام القاهريه