بقلم:جميل مطر
لن تكون سهلة رحلة الأيام المتبقية من مرحلة الرئيس دونالد ترمب في البيت الأبيض، قصرت هذه المرحلة أو طالت. سهل جداً أن نتهم ترمب بأنه الرئيس الأميركي الذي استطاع منذ يومه الأول في منصب الرئاسة أن يثير زوابع قلق ومشاعر شتى ومتناقضة في عديد القصور الرئاسية في مختلف أرجاء العالم.
الصعب هو الثمن الذي سوف تدفعه أميركا والغرب عموماً للاستفادة من هذه الزوابع. ترمب يعرف هذا الأمر. يعرف أنه صنع تغييراً وفرضه ليس فقط داخل المجتمع الأميركي ولكن أيضاً على مستوى قمة العالم.
من ناحيتي، ناحية المراقب والمحلل، أعترف بأنني أتفهم اعتناق الرئيس ترمب الرأي القائل بأنه صنع اختلافاً في شكل وربما جوهر السباق على القمة الدولية، وأنه أفلح في وقف بعض نزيف المكانة ويسعى الآن وفي ولايته القادمة لاسترداد أو تعويض ما فقدته أميركا خلال العقود الثلاثة الأخيرة. أتفهمه، وتفهمي لا يعني أنني صرت مطمئناً.
خلال آخر عهود الحكم في أميركا ازداد إلحاح السؤال عن علامات انحدار مكانة أميركا في كثير من مواقع القيادة الدولية وأسبابه والعقبات التي تحول دون وقفه.
ثارت نقاشات عديدة توصل بعضها إلى أن الانحدار حقيقة لا لبس فيها، ثم تشعبت حول ما إذا كان الانحدار الذي أعقب نهاية الحرب الباردة وتجربة غزو العراق يعكس تدهوراً في مكونات القوة الملموسة وغير الملموسة أم يعكس إدراكاً عاماً، أميركياً وغير أميركي، بأن آخرين صاروا بحالة أقوى مما كانوا عليها.
بمعنى آخر صارت أميركا نسبياً، وفي نظر نفسها والغير، أضعف مما كانت عليه فانحدرت مكانتها وربما مكانها أيضاً.
أدت هذه النقاشات وترجمتها على صعيد أداء وتفاعلات صانعي السياسة في الدول الكبرى إلى وضع فريد في النظام الدولي. تغير كثير من أنماط التعامل مع منظومة القيادة الدولية.
دول تصورت أن القيادة الدولية لم تعد أحادية القطب وفي الوقت نفسه لم تثق بأن القيادة أصبحت بالفعل متعددة الأقطاب.
هذه المرحلة من سوء الفهم أو التقدير طال أمدها متسببةً في قلق يبدو أن الغالبية العظمى من الدول وبخاصة الكبرى لا تعرف كيف تتخلص منه.
كنا في عهد أوباما – هيلاري نحلل اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية انطلاقاً من هذا الفهم. لم يكن الانحدار الأميركي سراً خفياً أو من قبيل الفتاوى النظرية، إذ كانت البنية التحتية الأميركية تتهاوى في ولاية بعد أخرى، والفجوة التكنولوجية تزداد اتساعاً، وثقة الحلفاء الأوروبيين والآسيويين والعرب بالقيادة الأميركية تترنح. ومع ذلك استمر غالبية المراقبين يعتقدون أن قرار الرئيس باراك أوباما، التحول بالتركيز الأمني وفي السياسة الخارجية نحو الشرق إنما كان إدراكاً متأخراً لفجوة في مستوى توازن القوة بين الصين وأميركا تضيق بسرعة متزايدة. لم نهتم كثيراً بأن الرد الأميركي المتأخر على هذا الإدراك جاء على مستوى متدنٍّ للغاية ولم يفِ بتطلعات حلفاء أميركا المطلين على بحر الصين الجنوبي أو يهدئ من مخاوف اليابانيين.
أعذار كثيرة نستطيع أن نقدمها لتبرير تأخر أميركا في الانتباه إلى فجوة في القوة بنوعيها الملموسة وغير الملموسة بينها وبين أقرب منافسيها، وأن هذه الفجوة تزداد اتساعاً. لم يأتِ الطرفان المتنافسان من فراغ أو من ضرب خيالات مريضة كما جاء في بعض كتابات صقور في تيار المحافظين الجدد والحرب الباردة. كثيرون لا يعرفون أن حكومة الحزب الشيوعي الصيني كانت في الخمسينات من القرن الماضي تبني برامج توعيتها على إحصاءات دورية تقارن بين إنتاج الفحم والصلب في الصين وإنتاجهما في بريطانيا «العظمى» والولايات المتحدة، إمبراطوريتَي الشر. لم أبالغ في أي مرحلة كتبت فيها، ولا أبالغ الآن إن كتبت، أنه من دون سجل الكره التاريخي بين الصين والعملاقين الغربيين ومن دون تعيينهما هدفين لسباق تعوض نتائجه المعنوية والمادية هزائم قرنين أو أكثر للصين على أيدي هيمنة بريطانيا ثم الهيمنة الأميركية، لَمَا حققت الصين إنجازات أهّلتها لموقع العملاق المنافس لأميركا في قيادة العالم. تابعتُ عن قرب صعود الصين غير مصدق أحياناً ومنبهر في أحيان أخرى. تابعت في الوقت نفسه نمطاً من العلاقات بين أميركا والصين بدا لكثيرين أقرب إلى أنماط معروفة من علاقات الحلفاء. احتوى هذا النمط على درجة عالية من التبادل التجاري والاستثماري والمالي أفادت الطرفين. ولولا التبادلية المكثفة فيه لشبّهته بمشروع مارشال ولكن بنيات أخرى.
هذه العلاقة بين أميركا والصين مثيرة لسببين متناقضين. السبب الأول أنها لم تلفت النظر فيما يبدو وبالدرجة الكافية إلى حقيقة أنها تبني عملاقاً منافساً لأميركا وأن وقتاً وعهداً آخر من عهود الحكم في واشنطن سوف يحلان إنْ آجلاً أم عاجلاً ليشهدا دعوة إلى الندم وضرورة تغيير قواعد السباق نحو القمة قبل أن تضيع الفرصة. السبب الآخر هو أن تيارات ومؤسسات نافذة أكاديمياً انتبهت متأخرة إلى أهمية وخطورة ما يحدث. كانت واعية كل الوعي لأهمية أن يكون صعود الصين متناسباً مع معايير تضعها أميركا بالتنسيق مع حلفائها ولا تسمح للصين بالقفز فوقها. كانت واعية أيضاً لضرورة أن تظل الصين ملتزمة مبادئ وقواعد عمل النظام الدولي الذي وضعت أميركا أساسه وأسس مؤسساته وأفكاره وفي مقدمتها حقوق الإنسان وحرية التجارة.
رحل عهد أوباما – هيلاري وحل عهد ترمب. اتفق العهدان على أن أميركا قوة عظمى على طريق الانحدار واختلفا حول أمور كثيرة وفي مقدمتها أساليب وقف هذا الانحدار. جاء ترمب إلى البيت الأبيض مقتنعاً بأن هذا الانحدار لن يتوقف إلا بتغيير الكثير من أبعاد الأمر الواقع على الصعيدين الخارجي والداخلي ومنها قواعد وأخلاقيات السباق الدائر على القمة. جاء وفي ذهنه أو أذهان ناصحيه ضرورة «تنويم» روسيا واللعب على التناقض بين طموحات موسكو وبكين قبل الاستفراد بالصين. تنذر المؤشرات بأن مهمة ترمب لن تكون سهلة وأن سباق الصعود معقد ومحفوف بمخاطر شتى ليس فقط لأطرافه المباشرين ولكن أيضاً لأعضاء في تكتلات وأحلاف دولية وإقليمية عديدة.