فى الأسبوع الماضى أصبت بوعكة صحية لم أستطع معها كتابة مقالتى الأسبوعية، كما اضطرتنى للاعتذار عن المشاركة فى الملتقى الثقافى العربى الذى نظمته «الأهرام» فى بيروت بالاشتراك مع جامعة بيروت العربية.
وقد وجدت من المناسب أن أكتب مقالة اليوم فى الموضوع الذى كان مقررا أن اشارك به فى ملتقى بيروت تعويضا عما اضطررت للاعتذار عن القيام به فى الأسبوع الماضي، وهذا الموضوع هو «الثقافة فى مواجهة الإرهاب».
ولقد يبدو للوهلة الأولى أننا فى هذا الموضوع إزاء نقيضين لا يلتقيان، لأن الإرهاب فعل عنيف وخروج على القانون والأخلاق، ولأن الثقافة نقيض لهذا كله. انها فكر وحوار ومنطق وقيم أخلاقية ومثل عليا. وحين يبلغ التناقض هذا الحد يكون البعد بين الطرفين محسوما والمواجهة ونتيجتها تحصيل حاصل.
غير أن الأمر ليس كذلك فى الواقع الذى تختلط فيه الأشياء وتتشابه ويصبح النقيض ونقيضه مركبا واحدا، الإرهاب لا يكتفى بأن يختلط بالثقافة ويرفع الشعارات ويزعم أنه صاحب حق ومبدأ، بل هو يتجاوز هذا الحد أحيانا ويدعى أنه متدين وأنه يفعل ما يفعله ويرتكب ما يرتكبه دفاعا عن الدين. وكذلك نرى الثقافة فى الواقع، انها ليست دائما حقا خالصا أو صوابا مطلقا، لكن الحقيقة فيها ربما اختلطت بالباطل، والوقائع التى نراها بأعيننا ربما داخلتها الأوهام.
صحيح أننا نستطيع إعادة النظر فيما نري، ونتمكن من التمييز بن المتناقضات، ونضع الإرهاب فى مكانه والثقافة فى مكانها، ولكن بشرط هو أن نخلص فى طلب الحق ونجتهد فى بلوغه، ومن هنا نبحث عن تعريف للإرهاب.
الإرهاب فعل عنيف، فهل يكون كل فعل عنيف إرهابا بصرف النظر عن الفاعل، ودون تحديد له أو تحقيق معه أو معرفة لأهدافه؟ مثلا، الحرب التى شنتها الولايات المتحدة على العراق كانت انتقاما من صدام حسين ونظامه الذى اتهمه الأمريكيون بأنه كان وراء الغارة التى شنتها منظمة القاعدة بالطائرات المخطوفة على مركز التجارة العالمى فى نيويورك ومبنى البتاجون فى واشنطن.
لكننا لا نرى فرقا جوهريا بين ما صنعه الأمريكيون فى العراق وما كان يصنعه صدام فيه. وإذا كان الأمريكيون قد أرادوا أن يحاسبوا صدام حسين على ما ارتكبه فأمام أى قضاة حاسبوه وأدانوه؟ وإذا كانوا قد قرروا أن يعاقبوه، هل يكون هذا بإلقاء القنابل وإطلاق الصواريخ على بغداد والبصرة والموصل؟
الولايات المتحدة لم تحدد خصمها، ولم تميز بين صدام حسين وأسامة بن لادن ولا بين صدام حسين وبقية العراقيين، وإنما اعتبرت الجميع خصوما إرهابيين وقررت انهم خطر عالمى وأن من حقها أن تطارد هذا الخطر وتضربه حيث تجده لتحمى نفسها وتحمى العالم بوصفها قلعة الديمقراطية وزعيمة العالم الحر، أى إنها حولت العالم كله إلى ساحة حرب، وهذا ما عبر عنه بعض المسئولين الأمريكيين فى العبارة التى أعلن فيها الحرب على الإرهاب. فالإرهاب فى نظر هؤلاء الأمريكيين ليس مجرد جريمة.
والإرهابيون ليسوا أفرادا أو جماعات محدودة وإنما هم جيوش محاربة. ولأن الولايات المتحدة تخلط بين المنظمة الإرهابية وبين الدولة ولا تميز بين الإرهابى والقاتل فهى تعتبر الإسرائيليين محاربين، وتراهم أصحاب حق وتساعدهم فى اغتصابه، على حين ترى أصحاب الحق إرهابيين تنتزع منهم مدنهم وقراهم وتسلمها للأغراب القادمين من بولندا وروسيا.
هكذا نرى أن التسمية الصحيحة ليست مسألة شكلية يغنى فيها الاسم عن الآخر، وإنما هى أول ما يجب أن نتعرف عليه لنتعامل معه كما يجب. فالإرهابى غير القاتل انتقاما أو القاتل بالأجر. والقاتل غير المقاتل. لكن ما الذى نستطيع أن تفعله إذا كان الأمريكيون قد سبقوا الإسرائيليين فى اغتصاب الأرض وإبادة أصحابها الأصليين؟ نحن لا نستطيع إلا أن نجهر بالحق ونعمل بمقتضاه. والثقافة هى طريقنا إلى الصواب، و العدل.
نعم. الإرهاب فعل عنيف. والحرب فعل عنيف. وجريمة القتل أو السرقة فعل عنيف، ولكن هذه الأفعال الثلاثة يختلف كل منها عن الآخر، فلابد أن نعرف فيم يختلف وبماذا يتميز لنعرف كيف يجب أن تكون ردود أفعالنا.
السياسة فى الإرهاب طرف أساسي، لأن التأثير النفسى هدف مطلوب فيما يسعى له الإرهابيون وهو إسقاط سلطة أو إحلال سلطة بديلة، والإرهاب إذن مرتبط بفكرة وطنية أو دينية، وهو بالتالى ضد وضع عام أكثر من أن يكون ضد أشخاص أو أهداف محدودة، فإذا كان لابد من اختيار أهداف بالذات فهو لا يختارها لذاتها بل لما تمثله ولما يتركه العنف الواقع عليها من تأثير على الآخرين. ولقد رأينا كيف اختارت القاعدة أهدافها بعناية فى الهجوم الذى شنته على الولايات. لقد ضربت السلطة ممثلة فى البنتاجون، وضربت رأس المال ممثلا فى مركز التجارة العالمي، وبما أن الولايات المتحدة هى أعظم قوة فى العالم فقد أراد أسامة بن لادن أن يقول إنه قادر على أن ينزل ضرباته بهذه القوة العظمي.
الإرهاب إذن ثقافة أو أنه نوع ردىء من الثقافة يعتمد على الإيهام والتهويل والتهييج والمبالغة والخلط بين الحقائق والأباطيل والكيل بأكثر من مكيال، وذلك لتبرير العنف واستخدامه كما نرى فى بعض التيارات الدينية والماركسية والوطنية وفى الجماعات التى تتبنى هذه التيارات. وبما أن الإرهاب ثقافة فالثقافة هى نقطة الضعف فيه. ونحن قادرون من خلالها على محاصرته ومواجهته.
نحاصره لنفصل بينه وبين الجمهور الواسع وهذا هدف أول ضرورى وممكن. ضرورى لنضيق الخناق على الإرهابيين ونمنعهم من توسيع قاعدتهم ونضطرهم حين ننجح فى عزلهم لمراجعة أنفسهم. وهو هدف ممكن لأن عامة الناس ليسوا أصحاب مصلحة فى أن يتورطوا فى العنف أو يكذبوا على أنفسهم كما هى حال الذين تورطوا وانغمسوا فى الكذب ولم يعودوا قادرين على الإفلات حتى لو ردت السلطات على عنفهم بعنف مثله، خاصة إذا كان الدين هو القضية التى يرفع الإرهابيون شعاراتها كما هى الحال عندنا.
نقلا عن الاهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع