طول انتظار تفعيل الدعوة الأجرأ والأشجع التى أطلقها الرئيس السيسى قبل ما يقرب من أربع سنوات، أصابنى بالإحباط. ومتابعة وملاحظة ومشاهدة معالم وملامح وأمارات مقاومة دعوات التجديد والتحديث والإنقاذ، دفعتنى إلى فقدان الأمل. والتيقن من أن هناك الكثير من جهود الجذب إلى أسفل، يصل درجة يُستحسن معها إغلاق باب الأمل مؤقتاً.
لكن هذا لا يمنع من أن تُستفز المشاعر وتُستنفر قرون الاستشعار حين يطالع المرء نوعيات من الأخبار مثل «البيئة الحاضنة لرواج أفكار الجماعات المتشددة مثل داعش لم تعد موجودة»، أو «مؤتمر عالمى لمحاربة الإسلاموفوبيا يُعقد فى كذا»، أو «ندوة تتناول الفهم الخاطئ للغرب للإسلام والمسلمين».
فإذا كان قطاع عريض من المسلمين فى بلاد المسلمين أنفسهم فى حاجة ماسة إلى التقويم وإعادة الهيكلة ومعاودة التكوين، وذلك بعد ما طالته أفكار متطرفة وضربته تفسيرات متشددة، وتمكنت منه ومن مجتمعه وأبنائه وأحفاده مظهريات سطحية كان من شأنها أن قصمت ظهر المحتويات الجوهرية وأصابت بعضها فى مقتل، فكيف لنا أن نتوجه إلى الغرب باللوم أو المطالبة بفهمنا فهماً صحيحاً؟!
الفهم «الصحيح» للدين، والذى احتكرته فئات بعينها على مدار العقود الأربعة الماضية، وبثته ونثرته وجذّرته فى العديد من الدول العربية - وأبرزها مصر - اتضح أنه تشويه للدين، وتسطيح لقيمته، وعمد إلى شغل الجموع بثقافة وتراث أغلب مكوناتهما مادية وحسية ومظهرية، ولا تمت بصلة للروحانيات والقيم المعنوية.
معنوياً، توقفت أمام حفنة من الأخبار السابق ذكرها، التى تشير إلى مؤتمرات محلية ستلقن الغرب درساً ليفهمنا «صح»، وندوات تعلن موت الفكر الداعشى وأبناء عمومته من الجماعات المتأسلمة، وأسلحة كلامية فتاكة من شأنها أن تحارب الإسلاموفوبيا البغيضة.
وللعلم والإحاطة، فإن الغرب والكثير من دول العالم غير المسلمة وغير الواقعة فى غرب خارطة العالم، لم يصحوا من النوم ذات صباح ليجدوا أنفسهم مصابين بالإسلاموفوبيا، فالفوبيا أو الرهاب مرض نفسى قوامه خوف متواصل من مواقف أو أنشطة بعينها حال حدوثها ومجرد التفكير فيها. وربما ينشأ تجاه أجسام أو أشخاص بأعينهم حال رؤيتهم أو التفكير فيهم. هذا الخوف الشديد والمستمر يجعل الشخص المصاب بالفوبيا يعيش فى ضيق وضجر، لا سيما إن تعرّض لسبب الخوف.
الخوف الذى اجتاح دولاً عدة جرّاء حوادث الدهس والطعن وغيرها، أليس كفيلاً بتربية، بدل الفوبيا، ألف فوبيا؟! والرعب الذى يدبّ كلما تداول الإعلام فيديو ذبح أو إعدام أو سحل بشر تحت شعار «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ألا يكفى لأن يدب بدل الرهاب مليون؟!
ودعنا من مسألة أن هؤلاء لا يمثلون الإسلام الصحيح، وأن أولئك يحاولون تشويه الدين الحق، وأن من يقترف هذه الأعمال إما مرتزق يتقاضى أموالاً أو مجنون فقد عقله. ودعونا نواجه أنفسنا، ألا يجتاح الكثيرين منا أسئلة ومراجعات حول ما أصاب الدين على مدار عقود مضت بفعل كثيرين ممن ينتمون لهذا الدين؟ ألا نلاحظ أن البعض من شبابنا المتعلم تعليماً محترماً، والذى لم يعتد أسلوب «لا تجادل ولا تناقش»، والذى تربى على قيم احترام الإنسانية كل الإنسانية، وإعلاء معانى العمل والعلم على الدجل والسيطرة على الأدمغة بتهديد الدنيا ووعيد الآخرة، يجدون أنفسهم قاب قوسين أو أدنى من فقدان الثقة فى النسخة المتداولة من الدين؟
والمقصود بالنسخة المتداولة تلك التى خطفها خريجو مدارس فكرية غارقة فى الظلام وماحية للعقول ومستبدة بالآراء. وهى تلك التى بدأت بتوجُّه ثقافى غير مصرى، ثم سرعان ما اصطبغت بصبغة دينية، وتحولت الثقافة إلى عقيدة. وهى تلك التى ركض البعض منا إلى اعتناقها خالعاً رداءه الأصلى وراضياً بهوية أخرى ونسخة غير أصلية من الدين الذى تحول عسراً لا يسراً. ألا يكفى ما يروجه أولئك من أن المؤمن كلما عانى وصارع واكتوى بنيران الحياة كان إلى الله أقرب، ضاربين عرض الحائط بأن «الدين يسر لا عسر»؟!
عسر الواقع يجعل البعض يعتقد أنه فى الإمكان محاربة الإسلاموفوبيا بمكلمة جهورية، حيث يتوالى المتحدثون على المنصة، يخطبون ويستطردون ويشرحون جمال الدين وطراوة العقيدة بطريقتهم أمام جمهور يشبههم. وفى نهاية الندوة يشعر الجميع بأنه «عمل اللازم وزيادة» فى مجال محاربة الإسلاموفوبيا.
الطريف والمثير والغريب فى آن أن الإسلاموفوبيا لا تحارَب، لكنها تواجَه عبر معالجة أسباب الفوبيا ومحو عوامل الرهاب. فهل واجهنا أسباب الارتباط الذى بات ينشأ أوتوماتيكياً بين التشدد والتدين، وبين إلغاء العقل والإيمان، وبين حبس المرأة فى الجنس والالتزام، وبين التعامل مع الهوية على اعتبار أن أبذل كل ما أوتيت من جهد حتى أبدو مختلفاً فى المظهر؟! وهل عملنا على محو عوامل الإرهاب التى تركت الميدان مفتوحاً على مصاريعه دون منافسين أمام كل من تسول له نفسه أن يحتكر الدين ويهيمن على التفسير ويسيطر على العقول؟ لا أظن أننا تطرّقنا لأى مما سبق من قريب أو بعيد! إننا نرعى بيئة حاضنة للإسلاموفوبيا.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع