ستة وستون عامًا كافية لسقوط أقنعة ونمو أخرى. وهى كافية أيضًا لسطوع نجم عهود وانطفاء أخرى. ولعل السنوات السبع الماضية بمثابة سبعة عقود فيما حملته لنا من كم هائل من الانكشافات والتحولات والتغيرات والترديات والانهيارات، بالإضافة إلى كم آخر هائل أيضًا من الفرص لإعادة البناء على مياه بيضاء عزت فى أزمنة سابقة.
كل ما سبق من عهود تلون بألوان قادته، وانعكست توجهات بعينها دونًا عن غيرها فى كتب التاريخ، وتسميات وليست أخرى لأسماء الشوارع والميادين، ومحبة لشخصيات دون غيرها فى مسيرة الأمة والأمم المجاورة.
وقد عانى عهد «الزعيم» (وهو لقب استحقه عن جدارة) الراحل جمال عبدالناصر من التجاهل حينًا، والكراهية حينًا، والتقييم بعين العهد الجديد رغم أنف الجميع أحيانًا. وما الحوارات الدائرة رحاها والنقاشات الجارية على قدم وساق بين كثيرين حول سياسات ناصر وما أسفرت عنه، وتقييم سنوات حكمه بين مؤيد محب عاشق على طول الخط، ومعارض كاره ناقم على طول الخط الآخر الموازى إلا سمة إيجابية من سمات ما بعد الثورات الكبرى، بما فى ذلك الثورات التى تفشل فى تحقيق أهدافها الأصلية.
والأصل فى التاريخ هو السرد ومن ثم التفنيد والشرح والتحليل. وحين يكون السرد مسيسًا أو مؤدلجًا أو ملتحفًا برداء دينى، يأتى التفنيد منحازًا والشرح جائرًا والتحليل ظالمًا. وهذا ما كبرنا عليه وعهدنا عليه آباءنا وأجدادنا. وضمن المميزات الكبرى للسنوات السبع الماضية أن قطاعات عريضة من المصريين توافرت لديها فرصة البحث والتنقيب بنفسها بعيدًا عن توجهات منهج التاريخ وإملاءات مسؤولى البث التليفزيونى وميول الأنظمة والحكام.
ولعل أحد الجوانب القليلة المضيئة فيما أسفرت عنه ثورة يناير المغدورة المهدورة هو ذلك الهامش الشعبى المتوافر بغية البحث والنقاش. صحيح أن السطحية تغلب حينًا، وإعادة التدوير تهيمن حينًا آخر، والهرى والهرى الآخر يسيطران دائمًا، إلا أنها خطوة جيدة فى طريق تكوين الرأى وتشكيل التوجه بعيدًا عن الأساليب التقليدية.
وبينما نحن نحيى الذكرى الـ 66 لثورة يوليو التى أججت حركات التحرر والتغيير فى أرجاء شتى فى العالم، لا تهيمن على الذكرى لدى ما درسته من أهداف ستة، ثلاثة «قضاء» وثلاثة «إقامة» كما حفظتها وكتبتها على ورق الامتحان. كما لا تسيطر على سنوات قليلة من محاولات محو سيرة الرجل وأخرى طويلة من جهود إمساك العصا من المنتصف حيث الإشارة إليه ولكن دون إفراط والحديث عنه دون تمجيد.
حتى المرة الأولى التى صُدمت فيها بقراءة كتاب عن تاريخ الشرق الأوسط فى الجامعة والإشارة إلى ثورة يوليو باعتبارها «انقلاب عسكرى» Coup d’etat لا تهيمن على الأفكار فى مناسبة مرور 66 عامًا.
لكن صور ناصر التى تم رفعها فى ثورة يونيو 2013 هى التى تأتى فى المقدمة. وسواء تم رفعها بفعل فاعل بعينه أو بدافع شعبى فطرى، فإن رد الفعل فى الشارع هو ما يعنينى. فقد استقبل قطاع كبير من المصريين الذين نزلوا إلى الشوارع بدافع تخليص مصر من قبضة الدولة الإخوانية صورة ناصر استقبالا كله حفاوة وحنينا.
هذه الحفاوة وهذا الحنين هو الذى يتبدى فى محلات قديمة عتيقة فى أنحاء متفرقة مازال أصحابها يعلقون صورة «الزعيم» على الجدار. وهو اختيار لا يمكن تصنيفة بـ«التطبيل»، فقد رحل الرجل عن عالمنا منذ 48 عامًا.
هذه رسائل لكل من يتخيل تفكيره السطحى أو تسول له نفسه المتملقة المتحذلقة أن رفع اسم هذا من كتاب التاريخ أو منع ذكر ذاك فى برامج التليفزيون أو فرض تحليل يجمل عهدا ما أو آخر يقبحه سيدوم ويبقى فى ذاكرة المصريين.
صحيح أن الذاكرة تمر بارتجاجات وهزات عنيفة، وتعانى صدمات وانكشافات عميقة، لكن فى النهاية لن تفرض جهة أو فرد أو أيديولوجيا مكانة سابقة التجهيز فى القلوب وقيمة معدة سلفًا فى العقول.
تحية إلى ثورة يوليو وما سبقها وما تلاها من ثورات، وتحية أكبر لكل من ينأى بنفسه عن استلاب التاريخ أو انتحال صفة صالون التجميل للقادة والأنظمة والشعوب.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع