بقلم - أمينة خيري
عن النساء فى مصر، هذه العلاقة الملتبسة بين مصر ونسائها تصول وتجول نقاشات التحرش. وما حوادث التحرش الزاعقة الصاعقة، ومنها ما يتحول إلى قاتلة، إلا فرص تقدم للبعض على أطباق من فضة للبحث فيما ألم بعلاقة مصر بإناثها على مدار عقود فائتة.
طفلة، صبية، شابة، ناضجة، عجوز، مختفية تحت طبقات وطبقات من الأقمشة، مكتفية بطبقة أو اثنتين، بنطلون مقطع مسايرة للموضة، ملابس مهلهلة تحت وطأة الفقر، برباطوز عيلة صغيرة، تنورات وفساتين تمسح الشارع لفرط طولها، وأخرى تغطى بالكاد ما ينبغى تغطيته، جمال طبيعى، وآخر صناعى، وثالث نبذته صاحبته من الأصل إرضاء للمجتمع، طفلة نحيلة تعتقد أنها دخلت عالم الأنوثة المرتقب بإسدالها الذى اشتراه لها أبوها من «التوحيد والنور» احتفالاً بعيد ميلادها السادس، امرأة تحمل كتلاً من الشحم واللحم وسنوات عمر كثيرة وأمراض الدنيا والآخرة وتخفى الكل تحت نقاب أسود غطيس يضيف إلى خبراتها الحياتية التى تجعلها تهفو إلى الآخرة، سيدة تفكر بدلاً من المرتين عشرا قبل أن تتجرأ وترتدى فستانًا كان محتشمًا بمقاييس القرن الماضى قبل أن يصبح المجتمع متدينًا بالفطرة، باختصار ملايين الطفلات والصبايا والنساء من مختلف الفئات العمرية يجدن أنفسهن كائنات ممنوعة لكن مشتهاة ومرغوبة.
ولأن العلاقة بين المجتمع ونسائه باتت تقتصر فى الكثير من الأحيان على تلك العلاقة الجنسية الفجة التى غلفها السلفيون والإخوان وأذنابهم فى نفس الورقة السولوفان التى قرفونا بها فى حكاياتهم المدرسية والفايسبوكية، فإن عيشة نسبة كبيرة جدًا من نساء نصر أصبحت عيشة سوداء.
وسواد هذه العيشة لا يعود إلى الفقر بالضرورة، لأن الميسورات يشكون قرف الشارع وتدنى أخلاقه. كما أنهن يجدن بين أقرانهم من الميسورين تدنيا مشابها فى التعامل معهن ولكن بـ«لوك» مختلف قليلاً عن ذلك الذى أصبح السمة العامة فى المجتمع.
المجتمع بكامل عدته كابس على نفس المرأة. فمن جهة، أملى عليه الخطاب الدينى المسيطر منذ سبعينيات القرن الماضى أن المرأة كائن يتأرجح بين الحرمانية الشاملة والشهوانية الشاملة، وهى معادلة أقرب ما تكون إلى سلكى الكهرباء اللذين يتسببان فى كهربة الجميع.
شحنات الكهرباء الزائدة الواضحة وضوح الشمس فى شوارع المحروسة ومجالسها وحتى أثيرها العنكبوتى تنضح بالكثير. وبالإضافة إلى العيون المتلصصة (والتى تحولت متبجحة فى الألفية الثالثة) إلى أجساد النساء المنتقبات والمحجبات جدًا ونص نص و«مش قوى» وغير المحجبات والصغيرات والكبيرات والجميلات وغير الجميلات، فإن الطريقة التى يمنطق بها كثيرون حوادث التحرش وأحداثه تقول الكثير عن ثقافة قبول التحرش السائدة.
وشخصيًا صُدمت فى الأيام القليلة الماضية حين طالعت ردود فعل بعض الأصدقاء على ما تتعرض له فتاة التجمع التى صورت الشخص اللزج السمج «بتاع أون سا ران». ردود الفعل دارت فى نفس الأطر التى تدور بين من ننعتهم بضيق الأفق ورجعية الفكر وازدواجية الشخصية. «طالما لبسها مش محترم يبقى تستحق» «البنت المحترمة ماتقفش تصور المتحرشين بها فى الشارع» «بص على صورها على صفحتها» إلى آخر المنظومة المعروفة عن مقاييس الأيزو للبنت المحترمة. بمعنى آخر، لو كانت فتاة التجمع ترتدى غطاء على رأسها للاقت كمًا هادرًا من التعاطف والتراحم والشهامة والجدعنة. وأذكر نفسى وإياكم بأن زوجة الرجل الذى قتل طالب الشروق ودفنه فى مطبخ البيت والتى ساعدت وعضدت وكانت شاهدة على القتل محجبة.
ومن حجاب زوجة القاتل إلى حجاب المتحرش بها على الشاطئ والتى قتل المتحرش زوجها، تخيلوا معى لو كانت السيدة غير محجبة، كيف كانت ردود فعل الشعب المتدين بالفطرة؟! أغلب الظن كانوا سيعلقون لها المشانق على باب الشاطئ!
غاية القول أن المجتمع الذى يدعى التدين الفطرى، والغارق حتى الثمالة فى تعليق انكساراته على شماعة المرأة، والتعبير عن فقدانه لهويته وترجمة وقوعه فى براثن ثقافات لا تمت له بصلة عبر تحميل النساء والفتيات مغبة هزيمته الفكرية والثقافية والمعيشية (هل تتذكرون معى مقولات «لن ينتهى الغلاء إلا إذا تحجبت النساء» و«لن ينصلح الحال إلا إذا تنقبت النساء» وغيرهما).
وتبقى العلاقة بين مصر ونسائها فى حاجة ماسة إلى الترميم ولكن بعد التطهير. ولن ينصلح الحال وتتصالح المرأة مع مجتمعها، إلا إذا واجه المجتمع نفسه بأفعاله وأفكاره التى أغرق بها نساء مصر على مدار نصف قرن مضى.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع