بقلم : أمينة خيري
جانب كبير من مشكلاتنا المعيشية ناجم عن مفهومنا عن «الحرية الشخصية». تعترض على أحدهم لأنه يقود سيارته عكس الاتجاه، فيجادل: «إنها سيارتى وأنا حر». تشكو أن جارة- فى كومباوند سكنى دفع مُلّاكه «دم قلوبهم» للعيش فى مكان غير عشوائى- حوّلت واجهة الشرفة من الخارج مخزنًا لتجفيف الثوم والبامية، فتباغتك بقولها: «دى بلكونتى وأنا حرة». تمتعض لأن الطبيب، مستأجر الشقة فى الطابق الثانى، قرر أن يطلى شرفته باللون البنفسجى، فيرفع شعار «وانتوا مالكم؟!».
يقرر صاحب محل الكشرى أن يفتتح محله الجديد على إيقاع موسيقى المهرجانات بصوت قادر على إيقاظ الميتين، وحين تعترض يخبرك بأن المكان محله، وعليك أن تضرب رأسك فى الحائط. ويا سلام لو جاء اعتراضك على صوت القرآن الكريم لزوم الفقرة الافتتاحية، فتأتيك التهمة مُجهَّزة سلفًا: «أنت حتمًا عدو الدين». تصعد مجموعة من طالبات الجامعة الملتزمات مظهريًا عربة المترو، وبعد صراخ الهَيْبَرة والضحك الهستيرى، تفتح كل منهن عبوة من المقرمشات كريهة الرائحة من خل وشطة وطماطم وليمون وغيرها، تعترض إحدى السيدات على الرائحة الكريهة، فتواجهها الفتيات بقول واحد: «هو احنا اللى بناكل ولا انتى؟!، مش عاجبك انزلى».
المدرسة المصرية الشهيرة فى مفهوم الحرية الشخصية «مش عاجبك انزل» تلخص جانبًا كبيرًا من معركتنا الفكرية وشطحاتنا وأمراضنا العصبية. بدءًا بالمتحرش الذى يستبيح جسد امرأة فى أتوبيس النقل العام، وحين تعترض على انتهاكها يصب غضبه عليها لأنها آذته فى حريته الشخصية فى التحرش بجسدها وكيانها، ويخبرها بأنها فى حال اعتراضها عليها أن تبرح المنطقة التى يتواجد فيها، وتنزل تركب «تاكسى»، مرورًا بصاحب المحل الذى يعتبر مكبرات الصوت الناقلة لموسيقى وأغنيات تصم الآذان أو حتى تلاوة للقرآن الكريم، رغم أنف المحيطين، حرية شخصية فى كيفية عمله أو إدارته لمحله، وانتهاء بالأخ الذى يقرر أن السير العكسى أمر يخصه وحده، والأخت التى ترى أن قيادتها سيارتها بينما رضيعها حاجز بينها وبين مقود السيارة شأن أسرى بحت، يمكن القول إن مفهومنا عن الحرية الشخصية باطل وفاسد ومراوغ.
والمراوغة الحديثة التى داهمتنا فى عقر ديارنا، والتى أقحمت نفسها على مفهومنا المريض أصلًا عن الحرية الشخصية، والتى جاءت مرتدية عباءة دينية، جعلت من المسألة «بزرميطًا خالصًا». وكأن إفساد حياتنا بقبح مفاهيم الغير عن حريتهم الشخصية لم يكن كافيًا، إذ بالهَبّة الدينية المفرغة من المضمون، والمعتمدة على العنصرية، حيث الشعور الكاذب بالتفوق، والترهيب حيث المتشكك كافر والرافض زنديق والسائل ملحد، تأتى على ما تبقى من بقايا تحضر. ولأن القوانين- المنظمة لحياتنا وعلاقاتنا، والقادرة على البَتّ فى خلافاتنا- فى غيبوبة منذ سنوات، ولأن «الحرام والحلال» بمفاهيمهما الشعبية باتا حاكمين، انقلبت شوارعنا وعماراتنا وتفاصيل حياتنا غوغائية وعشوائية، تارة باسم الحرية الشخصية، وأخرى محتمية بالحلال والحرام.