بقلم - أمينة خيري
نضحك ونقهقه منذ عشرات السنين بأن المصريين معدتهم تهضم الزلط. والزلط فى هذا الصدد لا يقتصر على تلك التكوينات الرملية والحجرية فقط (وإن كانت مكونًا رئيسيًا مما نهضم)، لكنه يشمل قائمة طويلة جدًا من الأشياء التى اعتقدت البشرية أنها أبعد ما تكون عن الانضمام لمكونات الطعام.
مكونات ما أكلنا على مدة عقود طويلة شملت مسامير فى الشاى والخبز، وأرجل وأذرع حشرات وزواحف وقوارض بأنواعها، ونشارة أخشاب وغيرها، بالإضافة بالطبع إلى ما تيسر من لحوم كلاب وحمير، ودواجن ولحوم وأجبان غير صالحة للاستخدام البشرى.
والبشر ومعداتهم فى الأصل كانوا على قدم المساواة، لكن ابنك على ما تربيه، وجوزك على ما تعوديه، ومعدتك على ما تدربها وتروضها على هضمه وسحقه.
ومن منا لا يعرف صديقًا جاء من بلاد الفرنجة فسقط مريض مياه الشرب، بما فيها المياه المعلبة التى تطلق عليها جزافًا «معدنية»؟! ومن منا لم يقع هو أو أبناؤه وجيرانه ومعارفه وحبايبه مرات ومرات ضحايا لنزلة معوية جائرة أو حالة تسمم فائرة أو شوية ترجيع على دوار على الماشى بسبب أكلة مرت عليها ذبابة هنا، أو استقرت فيها بقايا أشياء غير محببة هناك؟!
وبين هنا وهناك مطاعم أشكال وألوان. وللعلم والإحاطة، فإن ما يمر عبر الفم مرورًا بالمرىء ومنه إلى المعدة ومنها إلى الأمعاء الدقيقة والغليظة والمستقيم، قد يكون «فواجرا» (باتيه كبد البط والأوز) مغطى بصوص التفاح وقد يكون فولًا بالزيت الحار مع رأس بصل مدشوش. بمعنى آخر، فيروساتنا المعوية وأمراض أجهزتنا الهضمية تطبق مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة الطبقية دون تفرقة أو تفضيل لفئة على أخرى.
وعلى الرغم من أننا «شعب متدين بالفطرة»، وبين كل زاويتين للصلاة زاوية ثالثة احتياطى، ولا نتحدث إلا بـ«جزاك الله خيرًا» و«الأمر لله» و«ربنا يكرمك»، وحتى سياراتنا تأبى أن تمر فى الطريق دون نشر أصول الدين حيث لافتات «لا إله إلا الله محمد رسول الله» تغطى الزجاج الخلفى ومعها آيات وأحاديث وعبارات تقول للجميع «بصوا أنا متدين إزاى»، وعلى الرغم من أن «النظافة من الإيمان» والصلاة لا تجوز بغير وضوء الذى هو رمز للنظافة وليس كل النظافة (إذ لا يغنى الوضوء عن الاستحمام، ولا يستبدل تطهير أعضاء الجسم التى تختزن روائح كريهة بغسل نصف الأذرع والقدم ومسح الأذن والوجه... إلخ)، إلا أن كثيرين جدا لا يغسلون أياديهم بالماء والصابون بعد قضاء الحاجة، وكثيرين جدا لا يجدون حرجا عن «التف والنف» (البصق والتمخيط) باستخدام اليد وإلقاء الناتج على الأرض وغيرها كثير من مظاهر شيزوفرينيا النظافة.
شيزوفرينيا النظافة التى لا يتوقف عندها الكثيرون، نظرًا لأنها لا تعبر مخيلتهم أصلاً تشمل كذلك «ست البيت الفلة» التى تبرق دواخل بيتها لفرط النظافة ومن ثم تأبى أن تبقى على أحشاء السمك فيه، فتلقيه من نافذة المطبخ ليستقر فى منور العمارة. وتشمل الأخ الأستاذ المحاسب أو المهندس أو المعلم الذى يقود سيارته التى يحرص على تنظيف دواخلها بنفسه ويحافظ عليها مثل عينيه، ومن ثم يلقى بعلب العصير وأكياس الحلويات وبقايا السجائر من النافذة. وتشمل السوبر ماركت المحترم الذى ينظف عماله الأرض بالماء والصابون وأرففه بالمطهرات والمنظفات، ثم يلقى بواقى الطعام الفاسد والخضروات والفواكه المتعفنة على الرصيف المواجه. ويشمل الجار الذى يحافظ على نظافة شرفته فيقزقز اللب على دماغ الجار فى الطابق الأسفل. ويشمل السادة المؤمنين المتدينين- لاسيما من النساء- الذين سلموا أدمغتهم لشيخ الزاوية الذى أقنعهم بأن وضع مزيلات العرق حرام ورجس من عمل الشيطان.
شياطين الإنس والجن التى تحيط بنا وتتحكم فى حياتنا زاد خطرها وتوغل شرها. وحين تبدأ مصر فى التقاط أنفاسها، وبعد سنوات عجاف وأحداث جسام توقفت معها تقريبًا حركة السياحة التى كانت ساهمت فى عام 2010 بما يزيد على 11.3 فى المائة من الناتج المحلى المصرى، وفى الدخل بما يعادل 12.5 مليار دولار، وعمل فيها أربعة ملايين عامل وموظف (أى أربعة ملايين أسرة مصرية بما يعادل نحو 20 مليون مصرى كانوا يعيشون على السياحة)، يأتى من مازال يصر على عدم غسل يديه بعد قضاء حاجته، أو من يتذاكى ويعتمد الفهلوة عقيدة وعدم التخلص من بواقى أطعمة البوفيه المفتوح شطارة وعدم التخلص من الذباب والحشرات إما ضغطًا للنفقات أو لأنها «طير عادى فى الجو»، أو يتخلص منها عبر رش المبيدات فى أجواء المطابخ بينما الطعام عاريًا.
وفاة السائحين البريطانيين فى أحد منتجعات الغردقة ذات النجوم الخمس بسبب بكتيريا إى كولاى فضيحة. والأفدح من الفضيحة استمرار مسبباتها التى هى ثقافة زائد تربية زائد تنشئة زائد تركيز من رجال الدين على الحجاب والجلباب والنقاب وليس ما يقبع تحتها. وبالطبع، تراخى وتكاسل وتهلهل منظومة الرقابة والمتابعة والحساب والعقاب فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتنا تقف على قدم المساواة فى قفص الاتهام.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع