بقلم - أمينة خيري
التف الرجل الأربعينى وكوكبة العمال الواقفة معه ليستكملوا معاينة الجانب الخلفى من أجساد الفتيات الأربع، وذلك بعد ما انتهوا من تفحص الجانب الأمامى بإمعان، والحق يقال إنهم لم يتفوهوا بألفاظ جنسية خادشة للحياء. فقد كانوا يقفون فى حرم مكان رزقهم، وهو السوبر ماركت الشهير فى حى المهندسين، اكتفوا بتلك الابتسامات الذكورية السمجة اللزجة التى عادة تصاحب هذا النوع من «الشمشمة» الجنسية التى تجرى فى شوارع المحروسة على مدار ساعات الليل والنهار وما بينهما منذ عقود.
السؤال المباغت للمجموعة عن سبب التمعن فى الفتيات نجم عنه سلسلة من الردود المتوقعة والمعروفة سلفاً، «ما حصلش» «وإيه يعنى؟!» «حد كلمهم؟!» «عادى» وأخيراً، وبعد تضييق الخناق عليهم «لبسهم مش محترم وبيجبرونا على كده»، وبغض النظر عن أن ثلاثاً من الفتيات يرتدين الحجاب والرابعة منتقبة، وبعيداً عن كوكبة الرجال المتحرشة بالنظر المتبجحة باللامنطق المتنطعة بالردود، فإن المشهد من ألفه إلى يائه لم يستوقف جدعاً أو شهماً أو رجلاً بغض النظر عن تكوينه، بمن فيهم صاحب الكشك المتاخم، الذى يتصاعد منه صوت القرآن الكريم ليصل إلى مسامع الجميع.
الجميع صار يعرف أن شوارع مصر تعادى النساء والفتيات وحتى الطفلات، وجودهن يؤرق ويغضب ويقلق كثيرين، وإن اختلفت الأسباب، لكن يظل هناك سبب بازغ وعامل واضح يظلل الفضاء العام بكل تأكيد، المزاج العام فى الشارع تجاه كل ما هو أنثوى صار أقرب ما يكون إلى أوروبا فى القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد، ففى هذه العقود كان وضع المرأة تحدده كتابات ومواقف «آباء الكنيسة»، وكم كانت هذه الكتابات تضخ كراهية وتحقيراً للنساء، ولكن من باب الاختلافات البيولوجية، كانت النظرة صوب النساء لا تخرج عن إطار كونهن كائنات ضعيفة وهستيرية ومسببة للفتن الجنسية، وكانوا يعتبرون شعر المرأة من صنع الشيطان، لذا يجب تغطيته، وظلت الكنيسة لعقود طويلة تضع الرجال بين الله والمرأة فى ترتيب الكائنات.
الكائنات الأنثوية فى الشارع المصرى -باستثناءات قليلة جداً- تجد نفسها مضطرة للشعور بالذنب لأنها توجد فى الفضاء العام، لا سيما إن كان مظهرها الخارجى غير مطابق لمقاييس سنها البعض من واقع ثقافى لا يخلو من مكون اقتصادى، أعرف شابات كثيرات يمتنعن تماماً عن ارتداء ملابس أنيقة أو أحذية بكعوب عالية حتى لو كن متوجهات لحفل أو مناسبة ما، قالت إحداهن ذات مرة: أشعر أن الفستان أو البدلة التى أرتديها تزعجهم، ويا سلام لو معها كعب عالى، علىّ حينئذ أن أجهز نفسى لمشاعر كراهية تعبر عن نفسها بتحرشات مختلفة أو تعليقات تدعونى إلى الهداية أو أخرى تهددنى بنار جهنم، كثيرات يأخذن ملابسهن الأنيقة معهن يرتدينها فى مكان الحفل اتقاء شر الشارع، وحتى لا يقفز البعض إلى تحليلات سطحية وتعليلات هرطقية، فإن المظهر المقصود ليس خارجاً أو مستفزاً أو يفتقد الحشمة، لكنه يندرج تحت بند الصور التى نتداولها ونحن نتحسر على مصر التى كانت فى ثلاثينات وأربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضى، المسألة لا هى طبقية أو أخلاقية، هى مسألة تتعلق بشىء ما -أو بالأحرى أشياء ما- ألمت بالمجتمع المصرى فصار كارهاً للنساء، ولا تفرق كثيراً نوعية الأغلفة التى تغلف هذه الكراهية بدءاً بالصحوة الملتحفة بالدين وهو منها برىء، مروراً بقطعة حلوى معرضة لقرف الذباب وتجمهر الصراصير، وانتهاء بالإنكار من الأصل مع رمى الكرة فى ملعب «ولكنكم تحبون العراة وتدعون إلى الإباحية وتؤلهون الغرب المنفلت أخلاقياً»، جميعها حجج سخيفة وإنكارات تلف وتدور وتعود لتصب فى خانة المزيد من التحقير للنساء، وحين تفرد الأدلة السياحية صفحات لمن يفكرون فى زيارة مصر لتحذير السائحات من التحرش الذى أصبح آفة فى الشارع المصرى، فإن ذلك لا يؤكد إلا عكس كل ما سبق من حجج، فلا المجتمع صار متديناً خلوقاً بالشكل الذى يحاول مظهره أن يؤكد عليه، ولا ما يشاع حول «احترام المرأة» صحيح، ولا القانون قادر أو بالأحرى راغب فى حماية النساء والفتيات من المهانة والازدراء.. ببساطة شديدة أصبح الشارع طارداً للنساء.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع