بقلم - أمينة خيري
الكل يتحدث عن موجة الجرائم ذات التفاصيل الصادمة هذه الأيام، من أب قال إنه قتل ولديه، لأم حاولت التخلص من ولديها فمات الأول ونجا الثانى، لرجل تخلص من خطيب ابنته بقتله ثم دفنه فى مطبخ بيته، لمتحرش قتل زوج المتحرش بها على الشاطئ، وغيرها من الجرائم «العادية»، حيث خطف طفل والمطالبة بفدية، أو قتل زوجة بمساعدة الابنة والعشيق، أو قتل كلاب والتمثيل بأجسادها فى الشارع على سبيل اللهو، أو الاعتداء الجنسى على طفل ثم التخلص منه بقتله، وغيرها من الجرائم التى باتت «عادية».
اعتياد القسوة والفجر فى الجريمة أمر يستغرق بعض الوقت، شأنه شأن القبح المعمارى والأخلاقى والسلوكى وغيرها. خذ عندك مثلاً ما آلت إليه أشكال العمارات السكنية لدينا بجميع مستوياتها، سواء تلك التى تُبنى فى المناطق العشوائية والشعبية، أو تلك التى تشيد فى أرقى الأحياء وأغلاها. القبح المعمارى ليس حكراً على مبانى الفقراء، بل يمكن القول إنه أكثر شيوعاً فى مبانى الأغنياء.
«التجمع» بجلالة قدره وغلاء ثمنه وهيلمان سكنه تجمع للقبح المعمارى، «فخفخينا» الطرز الرومانية والإسلامية والحداثية وغيرها فى واجهة مبنى واحد فى تنافر ملحوظ وتباين فج هو قبح معمارى، ولا يقل فى قبحه عن تلك العمارات القبيحة التى يكاد يبنى بعضها فوق بعض فى «عزبة الهجانة» مثلاً، المثل المذكور غرضه طرح سؤال: هل يتوقف أحد لانتقاد هذا القبح أو ذاك؟ هل يعترض أحد على قرار الأستاذ فتحى ساكن الدور الثالث فى عمارة هى تحفة معمارية فى وسط القاهرة بأن يطلى نوافذ بيته باللون «الفحلقى»؟ أغلب الظن أن الإجابة «لا»، وأغلب الظن أن المعترضين يٌنظر إليهم باعتبارهم «ناس فاضية» أو «ناس مرفهة» أو «ماحساش بالناس»، وكأن «باكيدج» (حزمة) الغلب والفقر لا بد أن تأتى كاملة متكاملة مع القبح فى التفاصيل والسكوت عليها ومباركتها، وإلا يتهم الجميع بأنه «ماحساش بالناس»،
ومن «ماحساش بالناس» إلى إحساس الناس ووعيهم ورد فعلهم لما يدور حولهم وبينهم من جرائم، خذ عندك مثلاً رد الفعل الشعبى المتدين بالفطرة الشهم الجدع تجاه المتحرش بفتاة التجمع، «ما هو لبسها يدل على أخلاقها» «ما هو ما يصحش تصوره» «ما هو لو كانت محجبة ما كانش حصل كده» «ما هو عادى واحدة واقفة فى الشارع أكيد هيفتكروها شمال» إلى آخر معزوفة القبح التى لم تعد «عادية» فقط، بل ترتدى أحياناً رداء «التدين الوسطى الجميل».
«التدين الوسطى الجميل» ومعه القشرة الهزيلة المتهالكة المهلهلة من الأخلاق التى يدعيها كثيرون تكشف عن وجهها فى كل مرة تطالعنا أخبار جريمة ذات تفاصيل «صادمة» بمقاييس الأمس «عادية بمقاييس اليوم»، اليوم تجد من يدقق فى صورة من صور الأسرة المجرمة التى قتلت طالب الشروق ودفنته فى شقتها فى الرحاب، فتجد «سورة يس» معلقة على حائط البيت، ووالدة الخطيبة ترتدى الحجاب، فتسمع تلميحاً بأنه ربما فى الأمور أمور فالأم «ملتزمة» وربما تكون أٌجبرت على ما جرى!!
وما جرى فى الرحاب يجرى هنا وهناك، صدمة أولية، ثم بحث عن مخرج أو مبرر يبرئ الجانى ويمعن فى دهس الضحية، وأخيراً المزيد من اعتياد القبح، وهل هناك قبح أكثر من وصف الزوج المغدور على الشاطئ بعد ما اشتبك مع المتحرش بزوجته بأنه «يستاهل» و«لطخ» لأنه ذهب مع زوجته إلى شاطئ مختلط؟!
اختلاط الحابل بالنابل سمة الحياة فى مصر على مدار العقود الخمسة الماضية يطفح علينا اليوم تديناً مظهرياً وتدنياً أخلاقياً وتسيباً قانونياً واعتياداً غير مسبوق لكل ما هو قبيح، وما الذى ننتظره من مجتمع لم تعد للمدرسة فيه وجود باستثناء المبنى، ولم يعد للدين فيه دور باستثناء غطاء الرأس ويستحسن الوجه والزبيبة والجلابية والشبشب بصباع، ولم يعد للتنشئة الأسرية دور يذكر، ولم يعد للانتماء للوطن مجال يحسب؟
حساب المستقبل يبدأ فعلياً بإعادة بناء المصرى بعيداً عن المتطفلين بأنواعهم، وهو أشبه بالطب الوقائى الذى يقى الجسم قبل أن تدب فيه الأمراض والفيروسات، ومعه تدخل جراحى آن لوقف نزيف الأخلاق والأرواح واعتياد القبح، وهو ما يتم عبر تطبيق صارم وحاسم وعادل للقوانين الميتة إكلينيكياً.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع