بقلم - أمينة خيري
المواطنون (أو بالأحرى مواطنون) يتحاورون، يتعجبون، يتساءلون بعد ما غلب حمار كثيرين: تطبيق القانون فى الشارع، فى يد من يكون؟! وعلى الرغم من أن الجميع يعرف الإجابة بطريقة أو بأخرى، وبمسمى أو بآخر، إلا أن الكل يظل يصول ويجول ويعود إلى النقطة صفر: لمصلحة من تُرك الشارع هكذا؟!
وهكذا تدور غالبية الحوارات التى تنشأ فى الشارع بين الأغراب: سائق تاكسى وزبون، عامل مقهى وعميل، سايس ومالك سيارة، متجاورين فى عربة مترو، متزاملين فى ميكروباص، متلاصقين فى باص نقل عام، وهلم جرا. وهكذا أيضاً تنصب جلسات الأصدقاء والصديقات، ومقابلات الأهل والجيران. الكل يسأل تارة، ويحكى مثالاً يشيب له الولدان تارة، ويطرح حلاً واحداً لا ثانى له دائماً: الحل تطبيق القانون بحسم وصرامة وجهامة. وقد تجهم ضابط الشرطة الذى سألته ذات يوم عن سر غيابهم عن الشارع و«ربطه وضبطه». هو يقول إنهم يعملون دون كلل أو ملل، وهو يرى أنهم موجودون على مدار الساعة، وهو يؤكد أنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو عليه الحال الآن. لكنه -ولله الحمد- ذيَّل توكيداته بجملة كاشفة مفادها أن «البعض» من المواطنين يضرب بالقانون عرض الحائط، ويقاوم فكرة تطبيقه بكل ما أوتى من قدرة وحنكة وفطرة. فطرة المصريين -حسبما يقول الخبثاء- تميل إلى الالتفاف حول القانون، وحبذا لو كسره وخرقه عينى عينك، وذلك إعلاء من قيمة «وإيه المشكلة يعنى» و«هى جت علىَّ أنا؟!». وهناك من يستمتع بفكرة أنه فوق القانون (راجع كتاب التاريخ الحديث ونشأة أسرة «ماتعرفش أنا مين؟!» الممتدة). ومنهم أيضاً من يعتبر الالتزام بالقانون ضعفاً وخنوعاً، وخرقه قوة وبأساً وإقداماً وشجاعة.
خذ عندك درجات الطيف المختلفة من خرق القوانين بدءاً بصاحب المقهى الذى يتغول على حرم الشارع بكراسيه وطاولاته، وسائق التاكسى ذى العداد العطلان دائماً وأبداً، مروراً بالسايس الذى اعتبر الشارع ملك الوالد والوالدة، وموظفى المترو الذين اقتطعوا من محطاته زوايا للصلاة دون سند أو مرجع، وانتهاء بالسفهاء والبلهاء الذين يتهجمون بين الحين والآخر على من يصلى صلاة غير صلاتهم ويؤمن بعقيدة لا تتطابق وعقيدتهم.
كل من سبق ومعهم قوائم الخارجين على القوانين بدرجاتهم وفئاتهم المختلفة -وتقدر أعدادهم بالملايين كما يتضح من حال الشارع- يشاركون فى أحاديث التعجب والتساؤل عن أسباب غياب القانون شبه الكامل فى الشارع. وما أن تقترب ذراع القانون منهم، عبر مخالفة سير فى الاتجاه المعاكس أو اعتداء على حرم الشارع أو منع مواطنين من أداء صلواتهم (وهو أمر نادر الحدوث)، حتى تجده يتململ ويتضجر ويتأوه من هذا الظلم والجور والعدوان.
وتتراوح أسباب التململ بين «أنا غلبان» و«هى جت علىّ» و«قال يعنى أنا إللى هاظبط الحال المايل»، أو يتم إخراج الهاتف المحمول فوراً لمحادثة فلان بك أو علان باشا لإقناع (أو إجبار) ذراع القانون على التراجع. التراجع الهائل فى الشارع المصرى فى تطبيق القانون فى كل ما يتعلق بالتفاصيل اليومية لحركة المواطن المصرى آتت ثمارها. ووصلت الرسالة واضحة وصريحة للجميع، لا سيما أولئك الذين تهفو أرواحهم لخرق القانون وكسره وضعضعته: افعلوا ما بدا لكم! سر عكس الاتجاه، فلا رقيب أو حسيب.. استولِ على حرم الشارع، فلا مسائل أو محاسب.. افرض سطوة وجباية على المواطنين، فلا حامى لهم أو داعماً لحقوقهم، امنع جيرانك من الصلاة، فالحلول العرفية فى الدرج وصورة الشيخ والقس فى الأرشيف وكليشيهات «لُحمة الوطن» و«نسيجه» و«عنصرى الأمة» معبأة سلفاً. كسر الحلقة المفرغة التى تدور فى دوامات أذرع القانون المهدور المتحججة بأن المواطنين غير ملتزمين وأن خرق القوانين تحول من ظاهرة إلى اعتياد من جهة، ومواطنين ينقسمون إلى عاشقين للفوضى ومحبين للعشوائية ومستسيغين للقبح، وآخرين متضررين لكن لا حول لهم أو قوة، فإما الانضمام للقطيع من أجل البقاء على قيد الحياة أو الانعزال للحفاظ على ما تبقى من آدمية من جهة أخرى، وتجميد ملف بناء الإنسان المصرى (وهو بناء يبدأ بتطبيق القانون اليوم لحين ترميم الصحة والتعليم والغذاء والاقتصاد) من جهة ثالثة، كسر هذه الحلقة يبدأ بمصارحة المواطنين بأسباب عدم تطبيق القانون أو منحه إجازة مفتوحة!
التاكسى الأبيض
نسبة كبيرة من سائقى التاكسى الأبيض يقولون إن عدادات السيارات متعطلة ويلقون باللوم على الشركة المستوردة لهذه القطع التى تدعى عدم وجود قطع الغيار المطلوبة، والنتيجة عودة إلى المربع صفر حيث التفاوض على قيمة الرحلة. وهذا شكل آخر من أشكال خرق القانون، التاكسى الأبيض يعنى «عداد»، يعنى قيمة رحلة غير خاضعة للفصال. فإما سائقو التاكسى كاذبون وإما شركات العدادات فاشلة.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع