بقلم : د. عبد المنعم سعيد
أخيرا جرى الإعلان أن «مشروع ماسبيرو» فى طريقه إلى الاكتمال، أو على الأقل المرحلة الأولى منه وهو إخلاء المنطقة من شاغليها بعد أن جرى الاتفاق معهم على الرحيل، أو القبول بالتعويض، أو الحصول على وحدات بديلة عند الانتهاء. خرج الجميع من الاتفاق فائزين، فالخيارات متعددة لكى تناسب الظروف المختلفة، والآن فإن القاهرة كلها فازت بتحديث منطقة هى جائزة من حيث الموقع والإمكانات للتطوير على النيل، وكانت المثال الحى على رأس المال الميت غير المستخدم استخداما رشيدا. ما لا يقل أهمية عن ذلك أن «مثلث ماسبيرو» يقع على امتداد مشروع آخر لتحديث «القاهرة التراثية» بدءا من بعث «القاهرة الخديوية» وليس انتهاء بها، فهناك مشروعات جارية الآن فى القاهرة الفاطمية، وتلك الأيوبية، والثالثة الإسلامية الفسطاطية، والرابعة الفرعونية حول الأهرامات والمتحف الكبير وما سوف يستجد من اكتشافات لآثار وحدائق ومناطق تشكل فى مجموعها إحياء لعاصمة عظيمة وعريقة. السؤال هو لماذا تأخر مشروع مثلث ماسبيرو إذا كنا نعرف أهميته بهذا القدر منذ خمسين عاما، انتظرنا وأجلنا وترددنا وتراجعنا، وكانت لدينا مخاوفنا وخرافاتنا التى جعلت الإرجاء دوما الاختيار المفضل على تلبية الرجاء فى نهضة مصرية كبيرة.
القضية فى جوهرها ليس تأخير «مشروع مثلث ماسبيرو» وإنما تأخير مشروع النهضة المصرية كله الذى كان يسير ببطء السلحفاة وفقا للمعايير العالمية التى جعلت دولا تنهض بسرعة الضوء بينما مسيرتنا تسير بسرعة الدواب. الفارق بيننا وبين الدول التى سبقتنا كان أولا فى سرعة الاعتراف بما وصل إليه الحال من تخلف نجم عن سنوات من الضعف والجهل والمرض، أو من دمار نجم عن حروب عقيمة. لم يكن أمام فيتنام من حل أمام ما حدث لها من تدمير كامل لمدنها وقراها وبنيتها الأساسية وقواعدها الصناعية والتعليمية إلا الاعتراف بما كان واقعا والنظر فيما فعلته دول أخرى لتجاوز المرحلة الكارثية. لم يكن فى النظام الشيوعى ما ينقذ البلاد، ولا كان الاحتماء فى «عدالة التوزيع» ما يدفع إلى البناء وعمل المعجزات، ولا ما يستفيد من التقدم فى التكنولوجيا العالمية. الحل لم يكن فى روسيا ولا فى كوريا الشمالية ولا كوبا، وإنما كان فى اليابان وكوريا الجنوبية، وقبلهم جميعا الصين. كل هذه البلدان اعترفت بواقعها وحالها عقب حروب وثورات وشعارات عظيمة ونبيلة ولكنها تصل ببلاد أخرى إلى مرحلة عميقة من إدارة الفقر، وإقامة مساواة مزعومة بين غير المتساويين لا فى المهارة ولا فى العلم ولا فى الموهبة ولا فى العمل الكثيرجدا. ومع الاعتراف بالحال كان الاستثمار فى البشر لكى ينتج عنهم طبقة من «المطورين» ليس فقط من العقاريين، وإنما بالأساس من الصناعيين والزراعيين، ومن لديهم قدرة تقديم المبادرات فى مجالات الخدمات بكل أشكالها من النظافة إلى السياحة.
تأخر مشروع «مثلث ماسبيرو» خمسين عاما ومعه عشرات من المشروعات الحيوية الأخري؛ وفى صحيفة أهرام الخميس الماضى تصدر الصفحة الأولى «مانشيت» «إحياء مشروع أبو طرطور وتخصيص منطقة امتياز لفوسفات مصر». هذا المشروع بدأ فى عقد الستينيات قبل خمسين عاما أيضا وظل فى حالة موت إكلينيكى خلال العقود التالية شكل فيها نزيفا مستمرا للخزانة العامة حتى قيض الله للمشروع من يحييه قبل عقد من السنوات حتى بات قادرا على تصدير فوسفات وما تبعه من أسمدة فوسفاتية بما مقداره، كما جاء فى متن موضوع الأهرام، 800 مليون دولار. إحياء المشروع حدث بالفعل منذ أكثر من عقد، وبفعل القيادة الرشيدة للدكتور خالد الغزالى حرب وقدرته على استخدام التكنولوجيات الحديثة، واستكشاف أسواق جديدة تحتاج الفوسفات المصرى بمواصفاته، والتعرف على الشركات العالمية الكبرى فى المجال للتعرف على كليهما: التكنولوجيا والسوق. الآن فقط فإن الحكومة قررت مشكورة منح 220 كيلومترا مربعا لشركة «فوسفات مصر» لكى ينطلق المشروع إلى آفاق جديدة فى اكتشافات الفوسفات والثروة المعدنية والصناعات المكملة لها.
مثل هذه الحالات من «مثلث ماسبيرو» إلى «فوسفات أبوطرطور» إلى «محور قناة السويس» إلى كل المشروعات العملاقة التى نتحدث عنها اليوم كانت موجودة فى الفكر التنموى المصرى خلال نصف القرن الماضى ولكنها ظلت تتأرجح ما بين الاكتفاء بالتفكير والأحلام، أو السير خطوة ثم التراجع خطوات. كانت البيروقراطية إما أنها تعجز عن إصدار القوانين اللازمة، أو أنها تنشغل بأمور أخرى ذات أبعاد كونية، أو أنها تحارب أصحاب الأفكار التى تتحدى ناموس الدولة المصرية الذى يقوم على أنه مادامت الدولة عاشت لسبعة آلاف عام فلابد أنه يمكنها أن تعيش أيضا لسبعة آلاف أخرى دون مشروع بعينه. ثقافة إدارة الفقر باتت من الشيوع حتى خلقت شللا فى القدرة على المبادرة الفردية حتى باتت الدولة فى النهاية هى الصانع الأول والزارع الأول والتكنولوجى الأول ومقدم الخدمات الأول من اتصالات ومواصلات وغذاء. وعندما حاول الرئيس السادات الخروج على الناموس العام بالحرب عندما كان ذلك حتميا، والسلام عندما بات ذلك ضروريا، والانفتاح عندما لم يعد هناك بديل للخروج إلى العالم والتعلم منه والاشتراك فيما ينجز ويبتكر، فكانت النتيجة اغتياله. ومع استشهاده فإن الأحلام توقفت من ماسبيرو إلى أبوطرطور على مدى السنوات العشر التالية حتى وصلت الدولة إلى حافة الإفلاس قبل نهاية الثمانينيات من القرن الماضى. التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الحالى فتحت أبوابا ولكن «التأنى» وإدارة الفقر جعل النمو مقيدا حتى تجاوزتنا دول كثيرة.
ما يفعله الرئيس السيسى وإدارته الآن تتخلى عن تاريخ طويل لأكثر من نصف قرن من التقاعس والتردد؛ والآن فإن الإقدام على إنجاز ما جرى تأخيره وأحيانا وأده لأكثر من نصف قرن هو فضيلة لا شك فيها تضعنا على أول أبواب العصر. ولكن مصر تحتاج ما هو أكثر للدخول فيه بحشد أموالها وشعبها ليس فقط لإنجاز كل ما تأخر لنصف قرن، وإنما أكثر من ذلك اختراق سحب وسماوات من الحرية والتقدم وصلت إليها أمم قبلنا.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع