بقلم: عبد المنعم سعيد
ما سوف يلي لن يكون مصدر موافقة من كثيرين أُكنّ لهم الكثير من الاحترام والتقدير؛ ومن المرجح أن يكون مصدر غضب وربما دافعاً إلى لعنات. على أي الأحوال فقد انقضى شهر رمضان المبارك، ومن بعده عيد الفطر، وصحيح أن نتنياهو فشل في تشكيل حكومته ودعا إلى انتخابات جديدة ولكنها سوف تحدث في ديسمبر (كانون الأول)، ومن ثم فإن الولايات المتحدة سوف تعلن على الأرجح مبادرتها بخصوص القضية الفلسطينية الإسرائيلية في كل الأحوال. المراقبون لهذه المبادرة رصدوا كيف أن الطريق إليها مرّ بالطعن في شرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وفي وجود قضية اللاجئين، وفي وضع القدس، وقبل ذلك وبعده فإن القضية الفلسطينية من وجهة نظر الإدارة الأميركية الحالية هي ليست حركة تحرر وطني تسعى إلى حق تقرير المصير وإقامة الدولة، وإنما هي العيش التعيس في ظل ظروف اقتصادية صعبة إذا ما تحسنت وذُللت عقبات العيش فإنه لا قضية هناك ولا مسألة. واستناداً إلى هذا التعريف للقضية كانت ورشة العمل في المنامة لتفتح الملف الاقتصادي الذي سوف يقدم للفلسطينيين السعادة والغنى. ومن عجب أن الغموض الذي لُفَّت فيه المبادرة التي صار لها اسم شائع فيه نوع من التدليل فدُعيت «صفقة القرن»، كان كافياً لكي تخرج السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها من الموضوع بمقاطعة كل شيء، وزادت عليه رفضها الحصول على الضرائب والجمارك التي تخص الشعب الفلسطيني لأنها ناقصة، ما رأته إسرائيل بخسِّتها مساوياً لما تقدمه السلطة لأسر الشهداء والمعتقلين. ولم تكن المسألة في كل ذلك عما إذا كانت السلطة على خطأ أو صواب في موقفها؛ وإنما عما إذا كان ذلك مناسباً لمقتضى الحال والسياسة المناسبة أم لا؟ فالسلطة الوطنية الفلسطينية لا يمكن تجاهل حقائق أن الشعب الفلسطيني بات منقسماً بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن السلطة الفلسطينية وبغضّ النظر عمّن على حق ومن على باطل هي مقسمة بين رام الله وغزة، وبين «فتح» و«حماس»؛ وأياً كانت التعريفات والتسميات فإن 32 دولة في العالم حضرت احتفالات نقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ وأن هناك الآن أكثر من نصف مليون إسرائيلي يستقرون في الضفة الغربية غير هؤلاء الذين يعيشون في القدس الغربية والشرقية؛ ورغم أن الإجماع العربي لا يزال سارياً على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى والمركزية، وأن هدف السياسة العربية هو إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود 4 يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ضمن إطار تطبيق المبادرة العربية للسلام، فإن ما لا يمكن تجاهله أن كل دولة عربية لديها من التحديات ما لا تستطيع تجاهله، وبعضها إعادة بناء ما دمّره «الربيع العربي»، وبعضها تهديدات للماء أو للنفط أو للتماسك الداخلي للدولة، وبعضها أن الإصلاح الذي انتظر طويلاً لم يعد هناك بد من التصدي له والتعامل مع ما يواجهه من عقبات.
السلطة الفلسطينية لا تستطيع أن تتجاهل ذلك كله، وانسحابها من الساحة ومقاطعتها للدبلوماسية الظالمة الراهنة، وتسجيل المواقف كلما حانت الفرصة، لا يجعل هذه المواقف تختفي ولا يجعل الموقف الفلسطيني يتحسن. الأمر كله يحتاج إلى تفكير جديد يقوم على إدراك القانون الأساسي المنظِّم للصراع العربي – الإسرائيلي وفي القلب منه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وهو «إقامة الحقائق على الأرض»؛ كان ذلك ما فعلته الحركة الصهيونية منذ بدايتها عام 1897 حتى الآن، فتحدثوا عن وطن قومي، وفي عام 1942 كان أول الحديث عن الدولة ومن بعدها فإن باقي القصة معروفة من إقامة الدولة إلى توسعها إلى استيعابها لمهاجرين من بلدان شتى يتحدثون بلغات متعددة حتى باتت إسرائيل ما نعرفه عنها اليوم. المنهج العربي، والفلسطيني خاصة المقابل، كان دوماً البحث عن العدل، والرفض، والمقاطعة، والحديث الكثير عن القرارات الدولية، كأن العالم باتت فيه حكومة وقضاء؛ مع قدرة هائلة على تجاهل ما يحدث على الأرض في فلسطين، وفي المنطقة والإقليم بل والدنيا كلها وما فيها من تغيرات جعلت أطرافاً دولية مهمة، لطالما آزرت الفلسطينيين مثل الهند والصين وروسيا، الآن تتحدث عن «حل الدولتين» ولكن علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل هي ترجمة للحقائق على الأرض.
لحسن الحظ، هناك حقيقة فلسطينية مهمة باقية على الأرض، وهي أن أكثر من ستة ملايين فلسطيني يعيشون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، منهم مليون وسبعمائة ألف يعيشون داخل إسرائيل ويحملون جنسيتها وجواز سفرها ويشاركون في حياتها السياسية. الحقيقة الثانية المهمة أنه رغم كل ما جري من هوان للشعب الفلسطيني فإنه باتت له أول سلطة وطنية عرفها في التاريخ، وعندما أُنشئت منظمة شرق البحر الأبيض المتوسط كانت فلسطين مع إسرائيل من الدول الموقِّعة، وكان ذلك اعترافاً بالسيادة الفلسطينية على المياه الإقليمية لغزة التي توجد فيها احتمالات ظهور الغاز. والحقيقة الثالثة أن ما جرى من تقدم على الساحة الفلسطينية (وفي الواقع ما أدى إلى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المصرية والأردنية) تم من خلال المفاوضات والتفاهمات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. والحقيقة الرابعة أن هناك واقعاً على الأرض في الاعتماد المتبادل بين إسرائيل وفلسطين في مجالات الأمن والعملة والعمل والاقتصاد في عمومه ومجالات أخرى. هذه الحقائق رغم كل شيء ليست قليلة، وأهميتها تكون في رسم استراتيجية التعامل الفلسطيني مع إسرائيل والتي تكون الأولوية فيها لما يدعم هذه الحقائق على الأرض بما فيها بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه والرفض الكامل لكل ما يدفعه إلى الخروج منها، وأكثر من ذلك إعطاؤه الفرصة للاستثمار والنمو الاقتصادي وبناء المؤسسات وتعزيز فرص التعايش مع الشعب الإسرائيلي من خلال المفاوضات المباشرة والتأثير المباشر في السياسة الإسرائيلية. هذا التداخل الجاري بين إسرائيل وفلسطين لا يجعل فقط قضية الاحتلال هي القائمة بينهما، وإنما قضية المساواة أيضاً.
ببساطة فإن السياسة الفلسطينية والسياسة العربية لا تملك تجاهل التطورات التي سوف تأتي إلى المنطقة مع التحرك الأميركي القادم. والمؤكد أنه من الممكن نسف هذه المبادرة بالرفض والمقاطعة، ولكن المعنى المؤكد لذلك أيضاً هو استمرار الأمر الواقع على ما هو عليه بل ربما يزداد سوءاً ليس فقط بتعزيز موقف اليمين الإسرائيلي والأميركي، وإنما أيضاً بتعزيز المتطرفين العرب مثل «حماس» ومَن هم على شاكلتها الذين يستخدمون «القضية» لهدم المعبد العربي على رؤوس الدولة الوطنية العربية ومَن فيها من عرب. المقترب الآخر الذي يمكن أن نتجه إليه أن نفعل ما فعله الرئيس السادات من أن القضية ليست بيننا وبين أميركا وإنما هي بيننا وبين إسرائيل، أميركا وغيرها يأتون فيما بعد للتسهيل ورأب الصدع، ولكن «الصفقة» تكون بين من كان بينهم صراع طوال أكثر من قرن، وفي هذا يكون التفاعل والاشتباك على الأرض اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، المهم في كل الأحوال ألا يكون استمرار الأمر الواقع هو الحل!