بقلم - عبد المنعم سعيد
يوم الخميس الماضى 21 ديسمبر أعلن الرئيس دونالد ترامب أن وزير دفاعه جيمس ماتيس سوف يترك منصبه فى شهر فبراير المقبل. السبب المباشر كما يبدو لهذه المغادرة هو إعلان ترامب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، بعد فترة من الإعلان عن بقائها طالما أن الأوضاع العسكرية للحرب ضد داعش تستدعى ذلك، وطالما أن إيران يتزايد وجودها على الأراضى السورية. كلا العاملين - داعش وإيران - لم يتغير فيهما شيء، ومع ذلك كان قرار البيت الأبيض، ومع القرار سوف يخرج وزير الدفاع ماتيس آخر الراشدين فى ولاية ترامب، أو هكذا سادت الأوصاف فى الإدارة الأمريكية. فخلال الحملة الانتخابية للرئاسة من الانتخابات التمهيدية الحزبية بين ترامب وسبعة عشر مرشحا جمهوريا، وحتى الانتخابات الأخيرة بينه وهيلارى كلينتون، كانت توجهات ترامب للسياسة الخارجية مما يستعصى على قبول النخبة الأمريكية، وجرت العادة وقتها على البحث عما يطمئن، فكان الاعتقاد أن بلد المؤسسات تستعصى على تغييرات جذرية، وأن التجربة فى البيت الأبيض ليست كتلك فى إدارة الشركات. فى مواجهة ذلك، كان هناك تيار آخر، بدا جديدا على السياسة الأمريكية، أو أنه كان موجودا على الهامش وآن الأوان لانتقاله إلى قلب نظرة أمريكا إلى العالم. كان شعار هذه المجموعة التى تزعمها ستيف بانون المستشار الاستراتيجى للرئيس فيما بعد أنه لابد لترامب أن يظل ترامب وليس نسخة مزيفة من الواقع الذى من وجهة نظرهم لم يكن يخدم المصالح الأمريكية، أو الأمريكيين بصفة عامة.
وصل ترامب إلى البيت الأبيض وبدأت محاولة للتعايش بين التيارين، وانقسم المعاونون للرئيس بين مجموعة الحملة الانتخابية التى تريده نقيا صافيا فى خدمة أمريكا أولا؛ ومجموعة الراشدين الذين شكلوا امتدادا جمهوريا للقيادة الأمريكية للعالم الليبرالى الذى أقامته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وعززه قيام الاتحاد الأوروبى الذى تمدد عبر الزمن حتى وصل إلى الحدود الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وبينما كان على رأس المجموعة الأولى ستيف بانون. فإن المجموعة الثانية تزعمها أربعة من قلب المؤسسة الأمريكية: تيليرسون فى وزارة الخارجية، وماتيس فى وزارة الدفاع، وماكماستر مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي، وكيلى رئيس هيئة موظفى البيت الأبيض. للوهلة الأولى فإن هذه المجموعة الأخيرة بدا أنها قد نجحت فى ضبط نزعات ترامب، وجماعته الأولى التى استقال الواحد منها بعد الآخر، ولكن ما حدث فعليا خلال عام 2018 أن جماعة العقلاء تقلصت هى الأخرى واحدا بعد الآخر، ومع نهاية العام فإن ترامب أصبح حرا كما لم يكن فى أى وقت مضي، ومعبرا عن توجهاته التى ظهرت خلال الحملة الانتخابية والتى قامت على رؤى مناوئة لما استقرت عليه الأعراف الأمريكية طوال العقود السبعة الماضية.
ربما لم يعبر عن الانقسام الأمريكى إزاء السياسات الداخلية والخارجية بين ترامب وإدارته، والحزب الديمقراطى وقيادته، مثل ذلك المشهد الذى كان مذاعا تليفزيونيا وحضره ترامب مع قيادتى الديمقراطيين فى مجلسى النواب والشيوخ. مثل ذلك المشهد جديد على السياسة الأمريكية، فمن الممكن أن يعبر كل حزب عن آرائه لوسائل الإعلام، أما أن يجتمع الطرفان أمام عدسات التليفزيون فقد كان فخا من ترامب الذى يعرف كيف يتعامل مع هذه المواقف. المناسبة كانت السياسة الأمريكية إزاء المهاجرين واللاجئين التى يراها ترامب باعتبارها التهديد الأول للأمن القومى الأمريكي، والذى لمواجهتها لابد من استخدام القوة ووسائل أمنية أخرى فى مقدمتها حائط هائل يفصل بين الولايات المتحدة والمكسيك؛ بينما يراها الجانب الآخر على أساس أن موضوع الهجرة هو أساس وجود الولايات المتحدة، وأن هناك إجراءات قانونية ودستورية تنظمه ولابد من احترامها. لم يكن فى اختلاف الرأى فى الموضوع جديد، ولكن المشهد الذى أراده ترامب كان أنه المدافع الأول فى مواجهة الغزاة من الخارج؛ وأن الديمقراطيين من النعومة الليبرالية بحيث لا يقدرون على الدفاع عن المواطن الأمريكى أمام المهاجمين لأرزاقه، وربما الأهم أنهم سوف يكونون القاعدة الانتخابية للطرف الآخر فى المستقبل.
يقوم فكر ترامب على ثلاث قواعد: الأولى أن أمريكا هى التى يحتاجها العالم وبينما هى تستطيع أن تعيش دونه، هى نوع من الانعزالية والعزلة التى عرفتها أمريكا من قبل بعد حرب الاستقلال، وبعد الحرب العالمية الأولي؛ والثانية أن قيادة أمريكا للعالم بعد الحرب العالمية الثانية كانت مكلفة لأمريكا، فقد نهض منافسوها فى أوروبا واليابان، وتورطت أمريكا فى حروب لحماية ما لا يستحق الحماية؛ والثالثة أن المواطن الأمريكي، الأبيض خاصة، كان هو الذى دفع ثمن هذه القيادة، وبدلا من تغيير العالم فإن أمريكا هى التى باتت على وشك التغير، وعندما تورطت أمريكا فى عمليات بناء دول كما حدث فى فيتنام من قبل، وفى أفغانستان والعراق، فإنها فشلت تماما وبثمن فادح. هذه القواعد هى التى رسمت سياسة ترامب الخارجية والتى قامت على مواجهة مجموعة من المحرمات الأمريكية السابقة؛ فحلف الأطلنطى لم يعد له تلك القدسية التى كانت، والاتحاد الأوروبى بات فى جوهره نوعا من المعصية التى قامت لإيجاد تكتل مناويء للولايات المتحدة ومن ثم كان تشجيع البريكست سواء جاء من بريطانيا أو من غيرها فى المجر أو بولندا أو إيطاليا؛ ولم يعد من وظائف أمريكا مناوءة قادة أقوياء مثل بوتين فى روسيا، وشى جين بينغ فى الصين لهم طريقة مختلفة فى إدارة بلادهم. ولأول مرة فى التاريخ الأمريكى المعاصر أن يقوم رئيس أمريكى بانتقاد المؤسسة العسكرية الأمريكية، أو المؤسسات المخابراتية، أو حتى الشركات الأمريكية الكبري.
قرار الخروج من سوريا، وربما قريبا من أفغانستان أيضا، يأتى فى هذا الإطار، وللتاريخ فإن ترامب كان يريد هذا القرار منذ فترة، ولكن توازن الجماعتين فى إدارته أجل اتخاذه، ولكنه أتى فى النهاية لأن ترامب يعتقد من ناحية أنه ربما كان الشرق الأوسط غير قابل للإصلاح، وإذا كان ذلك ممكنا فإنه مهمة آخرين لديهم مصالح قريبة بينما الولايات المتحدة تقع فى عالم آخر.
نقلا عن الاهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع