أطلقت جامعة الإسكندرية فى الفترة ما بين 1976، والعام 1978، مشروعاً علمياً كبيراً عنوانه إعادة بناء الإنسان المصري, أشرف عليه الأستاذ الدكتور أحمد أبوزيد (1921-2013) شيخ المتخصصين العرب فى علم الانثروبولوجيا أو علم الإنسان، ومنذ ذلك الحين والحديث يدور حول هذا الشعار دون أن نعرف ما المقصود به؟ أو ما هى المواصفات التى يجب أن يتم طبقاً لها إعادة بناء الإنسان المصري؟ ... الجميع يقف عند حدود الشعار، أو فقط يشخص الواقع، ويضع اليد على الأبعاد الثقافية والاجتماعية للإنسان المصرى الموجود قبل إعادة البناء، كما حدث فى مشروع جامعة الإسكندرية الذى ركز على الخصائص الثقافية والاجتماعية للإنسان المصرى، دون أن يتم التطرق للرؤية المستقبلية، وما ينبغى أن يكون عليه الإنسان المصرى من حيث الثقافة والقيم، والمهارات.... الخ
واليوم يعود مرة أخرى شعار إعادة بناء الإنسان المصرى لأنه ورد فى تكليف رئيس الجمهورية لحكومة الدكتور مصطفى مدبولى، فيرد هذا الشعار فى تصريحات وزير التربية والتعليم ووزير المالية... ووزراء آخرون، وهنا لابد من أن يتم تحديد ما هو المقصود بإعادة البناء هذه، خصوصاً أن مجتمعاتنا العربية تتوجس كثيراً من فكرة إعادة البناء، لأنها تتضمن الهدم وهو الجزء المتيقن منه من العملية، والذى سيحدث فوراً، ولكن البناء الجديد غير متيقن منه، ولا يعرف أحد إذا كان سيحدث أم لا.
إعادة بناء الإنسان؛ شعار تكرر ظهوره فى مناطق كثيرة ومن منطلقات متعددة، فالأحزاب الماركسية فى الاتحاد السوفيتى والصين وكوريا الشمالية وكوبا ....الخ رفعت شعار إعادة بناء الإنسان، وكان المقصود تدمير كل الثقافة السابقة، وإعادة تصنيع إنسان مبرمج على القيم الماركسية، وكذلك فعلت الأحزاب القومية فى العالم العربى فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حيث تم رفع شعار إعادة بناء الإنسان، وكان المقصود هو تحويل البشر فى كل الجغرافيا العربية الى تبنى القيم القومية بغض النظر عن أعراقهم وأجناسهم، وخلفياتهم السابقة، الجميع لابد أن يكونوا عروبيين مؤمنين بالقومية والاشتراكية، ثم جاءت الأحزاب الدينية التى توظف الإسلام لتحقيق أغراض سياسية، وتبنت فكرة إعادة بناء الإنسان المسلم، لتحقيق عملية أدلجة على قيم الجماعة والتنظيم، وتحويل الإنسان المسلم من القيم الوسطية الجامعة، التى تؤمن بالتعدد والاختلاف والتنوع الى إنسان واحدى الرؤية والاتجاه، لا يعرف، ولا يرى إلا ما يقوله التنظيم ومؤسسه.
إذن عملية بناء الإنسان هذه عملية متكررة، ومتعددة ومتشعبة فى ذات الوقت، لذلك لابد من الإسراع بالتوضيح والبيان ماذا نريد من عملية إعادة بناء الإنسان المصرى، وهنا لابد من الإجابة على العديد من الأسئلة، وتوضيح العديد من الخصائص والأبعاد والمكونات التى تهدف إليها هذه العملية للوصول بالإنسان المصرى الى حالة مختلفة عن تلك التى وردت تحت نفس الشعار فى تجارب ونماذج سابقة.
مصر تحتاج الى إصلاح جذرى فى مجالات خمسة من أجل الوصول بالإنسان المصرى الى الحالة التى كان عليها أيام طلعت حرب، أو الى الحالة التى يستطيع بها أن ينافس عالميا أخاه الإنسان فى مجتمعات تسابق الزمن وتسعى مصر أن تكون مثلها، سواء فى العالم العربى أو فى إفريقيا أو فى آسيا، ولن نقول فى أوروبا أو أمريكا لان المقارنة ستكون ظالمة، ولعل نتائج كأس العالم فى روسيا هذا العام تقول لنا ذلك.
أولا: إصلاح النظام التعليمى ليس بنفس منهج وزارة الامتحانات، وإنما بمنهج الإصلاح التعليمى الذى عرفته كوريا الجنوبية والبرازيل وفنلندا وغيرها، أى بناء نظام تعليمى ينتج إنساناً صالحاً لأن يكون إنساناً أولاً، ثم نافعاً لنفسه ومجتمعه من خلال أى مهنة يتخصص فيها.
ثانيا: إصلاح المؤسسات الدينية جميعها ممثلة فى المسجد والكنيسة، بحيث يكون الدين للحياة، لإصلاح الإنسان، لتعليمه القيم، والأخلاق والنظام والنظافة، وحب الجيران، واحترام أخيه الإنسان، وعدم الغش أو الرشوة أو الفساد....الخ، لو تخيلنا أن خطبة الجمعة وموعظة الأحد جميعها ركزت على غرس تلك القيم بلا كلل ولا ملل، سيكون لدينا مجتمع آخر، وإنسان آخر.
ثالثاً: إصلاح الإعلام بجميع أنواعه ووسائله، ليكون إعلاما إيجابيا ينشر الأمل، والتفاؤل، يركز على النماذج الناجحة، ولا يضخم الفشل، يقوده أشخاص يمثلون قدوة للشباب فى سلوكهم وفكرهم، وحياتهم.
رابعاً: إصلاح المؤسسات الثقافية المعنية بالنشر والإبداع، وقصور الثقافة، لتركز على إطلاق الطاقات، ودفع الشباب للإبداع فيما يفيد المجتمع، ويصلح أحواله، ويبنى قيمه، فالأدب يستطيع أن يكون أهم مدرسة لبناء الإنسان والمجتمع، خصوصاً أدب الأطفال الذين يغيب تماما عن دوائرنا الثقافية.
خامساً: إصلاح الفنون خصوصاً السينما والدراما التليفزيونية، ويكفى أن نقلد ما فعلته الهند من خلال بوليوود، لقد استطاعت الهند أن تبنى مجتمعا يقوم على التسامح وقبول الآخر من خلال سينما بوليوود، التى تنشر قيم التعايش والتسامح بصورة رائعة، نجحت فى بناء مجتمع هندى واحد، ويكفى أن نعرف أن الهند ثانى أكبر دولة إسلامية من حيث عدد المسلمين لم يذهب مسلم واحد منها وينضم الى داعش. هكذا تكون عملية إعادة بناء الإنسان.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع