أية أزمة تكتسب مستوى خطورتها من تداعياتها.
باليقين فإن الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى مع إيران تتجاوز تداعياته المحتملة حدود نص القرار وأهدافه المباشرة.
فى لحظة إعلان الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» ذلك القرار بدا العالم ومراكز القرار فيه منتبها لما قد يحدث بعده فى حسابات القوى والمصالح والأخطار.
لم يكن القرار ـ بذاته ـ مفاجئا لأحد، غير أن المفاجآت بعده لا يمكن استبعادها.
الأوراق كلها ـ تقريبا ـ فوق المائدة والحسابات المتعارضة تنذر بأوضاع غير متوقعة.
الإدارة الأمريكية مضت فيما عزمت عليه منذ فترة طويلة دون أن تتوفر لديها حيثيات مقنعة لحلفائها، أو أية بدائل ممكنة.
الحسابات تناقضت بفداحة بين الشركاء الغربيين بشأن الاتفاق النووى ومستقبله.
ذلك يدخل فى صلب الأزمة ويضع حدودا لمستويات تفاقمها.
لم يكن الأوروبيون مستعدين للالتحاق بالموقف الأمريكى وكانت ردة الفعل سريعة وحاسمة حيث أسفت فرنسا وبريطانيا وألمانيا لمثل هذا التنصل من اتفاق يعتبرونه أفضل إنجاز دبلوماسى فى السياسة الدولية خلال السنوات الأخيرة.
يستلفت الانتباه فى تصريحات الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» باسم الدول الثلاث: «سنعمل بشكل جماعى على إطار عمل أوسع يشمل النشاط النووى فى فترة ما بعد ٢٠٢٥ وأنشطة الصواريخ الباليستية والاستقرار فى الشرق الأوسط خصوصا سوريا واليمن والعراق».
تلك التصريحات أقرب إلى ورقة عمل تحاول خفض التوتر مع الإدارة الأمريكية بتبنى مطالبها، التى لا تدخل فى طبيعة الاتفاق النووى، دون التحلل مما وقعت عليه الدول الثلاث خشية أن تفلت بالحماقات مصالح كبرى وحسابات استراتيجية فى الإقليم.
رغم الضغوط الأوروبية لوقف الاندفاع الأمريكى بدا «ترامب» متماهيا مع الطلب الإسرائيلى بالتصعيد بذريعة عدم الالتزام الإيرانى، وهو ما نفته الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
بأى نظر قانونى دولى لم يكن ممكنا إحداث أية تعديلات جوهرية على الاتفاق بما هو خارج طبيعته.
عندما تعقد اتفاقيات على مثل هذا المستوى تكتسب حصانة تمنع التلاعب فى نصوصها من وقت لآخر، غير أن القانون وحده لا يكفى لصيانة الحقوق.
من المتوقع ممارسة ضغوط أوروبية على إيران لمد جسر ما مع إدارة «ترامب».
هو نفسه فى إعلان الانسحاب قال نصا: «أنا مستعد وقادر على التفاوض لعقد اتفاق جديد عندما تكون إيران مستعدة».
دون اجتهاد كبير فإن إيران لن تبدى مثل هذا الاستعداد الذى ينتظره، وإلا فإنها تخسر دورها ووزنها الإقليمى وقوة ردعها مقابل رفع العقوبات الاقتصادية.
ربما راهن «ترامب» على أن طهران سوف تتبع قرار انسحابه من الاتفاق النووى بانسحاب مماثل فى ذات اللحظة، وأن ذلك يعفيه من الاحراجات الدبلوماسية مع حلفائه الأوروبيين ويسهل عليه التمهيد لعمل عسكرى مباشر بذريعة منع إيران من امتلاك أسلحة نووية.
كل الاحتمالات واردة غير أن تعقيداتها تردع بالنظر إلى قدرة إيران العسكرية أن تصل صواريخها إلى قلب إسرائيل، فضلا عن أن احتمال اتساع نطاق المواجهة يضع حدا آخر للعب بكتل النار.
تجنبت إيران الوقوع فى الفخ الأمريكى، أو خسارة الدول الأخرى الموقعة على الاتفاق، بإعلان استعدادها للمضى فى التزاماته بغض النظر عن الانسحاب الأمريكى، فهو اتفاق دولى لا يقتصر على واشنطن وحدها، مقابل أن يتعهد الأوروبيون بألا يلحقها أضرار اقتصادية جراء إعادة العمل بالعقوبات الأمريكية.
هذا موضوع تفاوض بين إيران والاتحاد الأوروبى له طبيعة مختلفة عما سوف يطلبونه.
لا شىء مجانيا فى العلاقات الدولية.
لكل طرف حسابات ومطالب تختلف عن حسابات ومطالب الجانب الآخر فى المفاوضات المتوقعة بغضون أيام وأسابيع.
بخشية عدم التوصل إلى تفاهمات تمنع الأضرار الاقتصادية المحتملة تعول طهران على تعميق صلاتها الاقتصادية بالصينيين والروس ـ حسب شواهد وتصريحات.
يراهن الأمريكيون على الاقتصاد أكثر من السلاح لتطويع الموقف الإيرانى، أو تغيير النظام كله ـ حسب ما أومأ «ترامب» فى خطاب الانسحاب، لكن يظل السلاح مطروحا فى جنبات المشهد بتحريض إسرائيلى ودفع من دول عربية تدعوها خلافاتها مع إيران إلى الاصطفاف مع الدولة العبرية.
وضوح الموقف الأوروبى، رغم ما على جنباته من ظلال، مانع رئيسى لسيناريو الحرب المباشرة.
فى المدى المنظور الاحتمال شبه المؤكد أن تكون سوريا مسرحا لعمليات إسرائيلية ضد مواقع إيرانية بالواقع أو بالشبهة ـ تحرش عسكرى مقصود لأهداف سياسية محددة دون الوصول إلى اشتباك واسع يفلت زمامه.
يستلفت الانتباه ـ هنا ـ أن فرنسا وبريطانيا حليفتى الولايات المتحدة بالهجوم الثلاثى على مواقع سورية بذريعة استخدام أسلحة كيماوية فى الغوطة الشرقية فى حالة تذمر معلن على قرار الانسحاب الانفرادى.
تشتت التحالف الغربى يفضى بموازين القوى الحالية فى سوريا إلى تراجع أية احتمالات لتسوية سياسية وفق صيغة جينيف إلى أجل غير معلوم.
رغم الحديث الأمريكى الجديد عن دعم وتدريب المعارضة المسلحة السورية فإن وزنها التفاوضى، عندما تتبدى فرصة تفاوض، سوف يتقلص إلى حدود بعيدة.
قد يفضى التحرش الإسرائيلى إلى إقحام لبنان فى الأزمة المشتعلة، والتحرش يتعدى الكلام العابر إلى التصريحات الرسمية كقول وزير إسرائيلى إن حزب الله هو لبنان بعد أن حصد حلفاؤه أغلبية المجلس النيابى الجديد.
غير أن هذا التحرش بلبنان له حدود وروادع بالنظر إلى توافقاته الداخلية وقوة مقاومته.
بصورة أو أخرى فإن المحنة اليمنية مرشحة للتمدد والتفكك ومزيد من مشاهد الموت الجماعى، فالأزمة مرتهنة لصراع إقليمى أوسع منها.
يصعب التوصل إلى أية تسوية ممكنة إذا استمرت الفجوات الواسعة التى تفصل بين الرياض وطهران والكراهيات الماثلة التى تكاد تضرب أمن الخليج فى مقتل.
الألغام فى كل الملفات، وكلها مرشحة لتدهورات جديدة.
نقطة التفجير الأخرى ـ بالإضافة إلى التصعيد على الحافة مع إيران ـ عنوانها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة يوم (١٥) مايو الحالى ـ الذى يوافق اغتصاب فلسطين عام (١٩٤٨).
المقدمات تشى بدرجة عنف سوف تمارس بحق الفلسطينيين أكبر مما حدث ضد مسيرات العودة، والمضى فى ضم الكتل الاستيطانية وإنكار أى حق فلسطينى، غير أن لكل فعل رد يساويه فى القوة ويضاده فى الاتجاه.
رغم الخلافات التنظيمية الفلسطينية فى أوقات تقرير مصير فإن مسألة القدس ليست من الأمور التى يمكن تجاوزها بالصمت، أو بالتواطؤ.
يكاد يستحيل تمرير صفقة القرن أيا كانت الضغوط، وهذه مسألة حاسمة فى موازين الدول والسياسات والرجال.
القضية لا تتلخص فى التصعيد مع إيران ولا فى فلسطين.
نحن أمام قوة إسرائيلية أفلت عيارها تطلب فرض إرادتها على مستقبل الإقليم كله ونعطيها بالتخاذل ما لا تستحق ولا تقدر عليه.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع