كأنه زلزال ضرب تركيا فى عمق ثقتها بمستقبلها وتوابعه تمتد إلى الإقليم وملفاته المشتعلة بالنيران.
لا يمكن تلخيص الزلزال التركى فى الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التى تبدت فى انهيار عملتها إلى النصف تقريبا فى نصف عام.
كما لا يمكن رد أسبابه إلى محض نظرية مؤامرة.
فى الحديث المفرط عن المؤامرات هروب من الأزمة حقيقتها ودواعيها.
كيف تقوض النموذج التركى إلى حدود الانهيار؟
السؤال يستدعى مراجعة تجربة «رجب طيب أردوغان» فى الحكم حتى يكون النظر فى موضعه والسيناريوهات المحتملة توافق ما قد يحدث فعلا.
يستلفت الانتباه ذلك التناقض الفادح بين صورة تركيا مطلع القرن الحالى والصورة التى أصبحت عليها الآن.
فى الصورة الأولى بدت دولة إقليمية كبرى تتطلع إلى أن يكون القرن الحادى والعشرين فى الشرق الأوسط تركيا، حسب الأدبيات التى شاعت وقتها وعقدت تحت لافتاتها ندوات ومؤتمرات وحلقت رهانات وتصورات.
وفى الصورة الثانية تبدو دولة مترنحة اقتصادها عليل وشعبها منقسم ومستقبلها غامض.
ما بين الصورتين كانت «العثمانية الجديدة» عنوان النموذج التركى الذى عرض نفسه على الإقليم، مستندا إلى سمات رئيسية زكته وأضفت عليه جاذبيته قبل أن تعصف به الحوادث إلى النهايات المحتمة.
أول تلك السمات تحسن اقتصادى لافت وضع تركيا فى المرتبة السابعة أوروبيا والسابعة عشرة عالميا.
وثانيها تعددية سياسية ونظام برلمانى على قدر من الاستقرار وتداول سلطة وحريات عامة وصحافية.
وثالثها الحفاظ على علمانية الدولة التى أسسها عام (1923) «مصطفى كمال آتاتورك» على أنقاض الخلافة العثمانية.
هكذا بدت «العثمانية الجديدة» عند عرضها فى البداية اجتهادا فكريا وسياسيا فى إطار الدستور التركى وقواعد اللعبة الديمقراطية وليس انقلابا عليها.
ورابعها السعى بالوسائل السياسية إلى دمج الأقلية الكردية فى بنية الحياة السياسية وتخفيض كلفة الأعمال الإرهابية المنسوبة إلى حزب العمال الكردستانى.
وخامسها الاقتراب من قضايا العالم العربى، وأهمها القضية الفلسطينية، دون التورط فى أية اشتباكات وأزمات مع أية أطراف إقليمية.
وفر سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكى عام (2003) داعيا إضافيا للتقدم إلى الإقليم لملء الفراغ فى شرق العالم العربى بقوة نموذجها الاقتصادى والسياسى القوة الناعمة لا الخشنة.
كان «أحمد داود أوغلو» رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق المفكر الأول لـ«العثمانية الجديدة» وصاحب شعار «صفر مشاكل».
لم يعد ممكنا الحديث الآن عن «عثمانية جديدة» تلتزم بالقواعد الديمقراطية ولا عن شعار «صفر مشاكل»، حيث تخيم على كل جوانب الحياة الداخلية التركية، وليس الاقتصاد وحده، وفى كل ملفات الإقليم المشتعلة، وليس ملف بعينه، وفى العلاقات مع الغرب وحلفه العسكرى «الناتو»، وليست الولايات المتحدة وحدها.
كانت ثورات الربيع العربى، التى نشأت عام (2011) وسرعان ما اختطفت أو استحالت إلى صدامات مسلحة أنهكت وشردت شعوبها، على عكس مقصدها فى طلب الديمقراطية ودولة القانون الاختبار الحقيقى لـ«العثمانية الجديدة» بكل سماتها.
تورطت تركيا بأثر اعتقادات رئيسها السياسية والتنظيمية فى دعم جماعات إرهابية، وفرت الملاذات الآمنة والغطاء السياسى والإعلامى، دربت المقاتلين ومررت السلاح عبر الشمال السورى.
بقدر آخر دخلت طرفا مباشرا فى الأزمة الليبية من باب النكايات السياسية بعد (30) يونيو (2013)، التى أطاحت بجماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة فى مصر.
بالبدايات دعا «أردوغان» الإسلاميين إلى بناء دولة علمانية على النموذج التركى، كما صرح بالقاهرة فى سبتمبر (2011) غير أنه انقلب بعد وقت لم يطل على ما دعا إليه.
أغوته فكرة عودة الخلافة، استنبول عاصمتها وهو الخليفة.
بدا ذلك إعلانا سياسيا وفكريا بنهاية «العثمانية الجديدة» والانقلاب على الإرث العلمانى التركى.
رغم ذلك بقيت الفكرة فى المجال العام التركى دون صدقيتها، فقد تقوضت السمات التى صاحبتها كلها دون استثناء.
كشفت تداعيات الانقلاب العسكرى الفاشل فى يوليو (2016) حقيقة الالتزامات وطبيعة التفكير، وما خلف «العثمانية الجديدة» من اعتقادات ورؤى.
انتهكت دولة القانون، زج بعشرات الآلاف خلف جدران المعتقلات، فصلت أعداد أكبر من وظائفهم فى الجيش والقضاء والجامعات والمدارس والدواوين الحكومية وأغلق المجال العام أمام حريات التعبير والتنوع السياسى، حتى أصبحت تركيا فى ذيل التصنيف الدولى للحريات الصحافية.
استبدت «نظرية المؤامرة» بـ«أردوغان» وجرت شيطنة حليفه وراعيه السابق «فتح الله جولن».
لا يعقل بعد عامين من الانقلاب الفاشل أن تجرى اعتقالات وتوقيفات وعمليات فصل من العمل بتهمة الضلوع فيه والانتماء إلى تنظيم «جولن».
بذريعة مقاومة «الانقلاب العسكرى على الديمقراطية» قام هو بانقلاب مدنى عليها، فكل من يختلف معه متهم بالضلوع فى مؤامرة.
أهان الجيش التركى وأضعف جاهزيته العسكرية، كما لم يحدث من قبل.
ودفعه للتدخل فى سوريا باسم حماية الأمن القومى من الخطر الإرهابى الكردى، ولذلك تداعياته فى أى مدى منظور إذا ما أفلتت الأزمة الاقتصادية من أى قيد.
وبذريعة حماية الدولة التركية من أية اهتزازات سياسية جرى تعديل الدستور والتحول إلى «دولة الرجل الواحد».
أطاح بـ«عبدالله جول» توأمه السياسى وأبعد «أحمد داود أوغلو» منظره الفكرى وهمش المعارضة، كأن دورها الوحيد الوقوف معه فى مواجهة الأزمات التى يتسبب فيها.
الأزمة الاقتصادية كاشفة لمأزق الرئيس التركى، لكنها ليست كل الأزمة.
بالتعريف: إدارة الاقتصاد مسألة سياسية لها صلة بالاستقرار السياسى على قواعد حديثة وببيئة الاستثمار والثقة العامة فيها.
الأزمة بنيوية لا هى طارئة ولا تعود أسبابها الحقيقية إلى الضغوط والعقوبات الأمريكية.
رقم واحد يلخص حجم الأزمة، حيث يبلغ صافى الدين الخارجى (282) مليار دولار ونسبة كبيرة منه يتوجب سدادها فى غضون العام الحالى.
بقدر عمق الأزمة الاقتصادية يبدو التخبط السياسى ماثلا فى إدارتها.
لا توجد مواجهة حقيقية لأسباب الأزمة وامتداداتها، أو استعداد لأية مراجعات لمجمل البيئة العامة التركية.
خطاب المؤامرة والتعبئة يسود المجال العام التركى، بما يحجب الحقيقة ولا يساعد على تجاوز الأزمة.
فى اتجاهات متضاربة بدأت تحركات واتصالات دبلوماسية دون أن تستبين خطة واضحة ومقنعة أنها بسبيلها لتخفيف حدة الأزمة.
التخبط من طبيعة مداهمات الأزمات فى بداياتها، غير أنه إذا ما استمر، وهذا غير مستبعد، فإنه ينذر بانهيارات أفدح اقتصادية وغير اقتصادية تضع مستقبل «أردوغان» بين قوسين كبيرين.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع